‫الرئيسية‬ الأولى فرنسا تغرق في فوضى سياسية… وريتايو يدفع ثمن كراهيته للجزائر
الأولى - الدولي - مقالات - ‫‫‫‏‫5 ساعات مضت‬

فرنسا تغرق في فوضى سياسية… وريتايو يدفع ثمن كراهيته للجزائر

فرنسا تغرق في فوضى سياسية... وريتايو يدفع ثمن كراهيته للجزائر
يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاهدًا استعادة زمام المبادرة السياسية في بلاده، بعد أن باتت الساحة الفرنسية غارقة في أزمات متلاحقة، وأنهكتها الصراعات الداخلية والمواجهات الحزبية، في وقت تتزايد فيه عزلة الرئيس داخل المؤسسة السياسية التي أنجبته. فمنذ رحلته الأخيرة إلى مصر، حيث ظهر إلى جانب الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قمة شرم الشيخ، بدا واضحًا أن ماكرون يحاول استثمار حضوره الخارجي للهرب من مأزقه الداخلي، أو على الأقل لتخفيف الضغط السياسي الذي يهدد حكومته الجديدة بقيادة سيباستيان لوكورنو. ومع ذلك، فإن محاولاته تبدو أقرب إلى المناورة البائسة، فالرجل الذي كان يومًا رمز التجديد السياسي في فرنسا أصبح اليوم موضع سخرية في الإعلام الفرنسي، ووصفته بعض الصحف بأنه “شبح سياسي يعيش على أنقاض شعبيته القديمة”.

في القاهرة، حاول ماكرون أن يتقمص دور القائد الدبلوماسي الذي يسعى لتثبيت “السلام في الشرق الأوسط”، لكنه لم يتمكن من إخفاء حجم التصدعات السياسية في باريس، حيث تتجه حكومته نحو أزمة جديدة قد تطيح بها خلال أيام. فحزبا التجمع الوطني اليميني المتطرف وفرنسا الأبية اليساري، اللذان يمثلان النقيضين السياسيين في البلاد، قدما معًا مذكرتين رسميتين لحجب الثقة عن الحكومة، في خطوة نادرة تُظهر حجم السخط من أداء الإليزيه. المفارقة أن ماكرون، الذي تعهد علنًا بأنه سيمنح رئيس وزرائه الجديد حرية مطلقة في تشكيل فريقه الحكومي، نقض وعده فورًا حين عقد معه اجتماعًا دام أكثر من ثلاث ساعات قبل مغادرته إلى مصر، ليتولى بنفسه وضع أسماء الوزراء ومناقشة توزيع الحقائب. هذا السلوك أكد ما بات يعرفه الجميع: أن الرئيس لم يعد قادرًا على التفويض أو تقاسم السلطة، وأنه متمسك بإدارة كل صغيرة وكبيرة بنفسه رغم فقدانه السيطرة على المشهد السياسي والبرلماني.

وسط هذه العاصفة السياسية، يبرز اسم برونو ريتايو، زعيم حزب الجمهوريين اليميني ووزير الداخلية الأسبق، الذي تحول من أحد الوجوه الصاعدة في اليمين الفرنسي إلى رمز للفشل السياسي والتخبط القيادي. ريتايو، الذي اشتهر بخطابه المتشدد تجاه المهاجرين وبهجماته المستمرة على الجزائر، حاول منذ توليه قيادة الحزب في مايو 2025 أن يقدم نفسه بوصفه “المدافع عن الهوية الفرنسية” و”الخصم اللدود للنفوذ الجزائري في فرنسا”، لكنه سرعان ما اصطدم بواقع سياسي مغاير، إذ كشفت استطلاعات الرأي أن خطابه العدواني لم يجد آذانًا صاغية، بل أدى إلى نفور شريحة واسعة من الناخبين الفرنسيين الذين سئموا من شعارات الكراهية. فبعد أن كان يحلم بالحصول على موقع متقدم في سباق الرئاسة المقبلة، وجد نفسه لا يتجاوز نسبة عشرة في المئة من نوايا التصويت، متراجعًا حتى عن بعض الشخصيات الثانوية في اليمين والوسط.

ريتايو، الذي قضى سنوات طويلة في الظل داخل مجلس الشيوخ قبل أن يصعد إلى واجهة المشهد السياسي، حاول تكرار تجربة نيكولا ساركوزي، الذي استخدم وزارة الداخلية منصة للوصول إلى قصر الإليزيه. لكنه أخطأ الحسابات. فبينما كان ساركوزي يتمتع بكاريزما سياسية وقدرة على المناورة، افتقر ريتايو إلى الحنكة والديناميكية، كما أن توقيته جاء في مرحلة ضعف عام لليمين الفرنسي وانقسامه بين تيارات متناحرة.

وإذا كانت الصراعات الداخلية قد أضعفت اليمين الفرنسي عمومًا، فإن ريتايو كان سببًا مباشرًا في تفاقمها. ففي الوقت الذي كان يتفاوض فيه للانضمام إلى حكومة لوكورنو الأولى، بدا وكأنه مستعد لتقديم التنازلات مقابل العودة إلى السلطة. لكن بعد ساعات قليلة من إعلان الحكومة، انقلب عليها فجأة بحجة اعتراضه على إعادة وزير الاقتصاد برونو لومير إلى التشكيلة الوزارية، معتبرًا أن الأخير “دمّر ماليا البلاد”. هذا الموقف المتقلب جعل ريتايو عرضة للسخرية حتى من داخل حزبه، واتهمه خصومه بأنه يفتقد إلى الاتزان السياسي ويتخذ قراراته بناءً على الانفعال الشخصي لا على رؤية استراتيجية.

ولم يتوقف عند ذلك، إذ قام بطرد شخصيات بارزة من حزبه، مثل وزيرة الثقافة رشيدة داتي ووزيرة الزراعة آني جينوفار، بدعوى أنهما “خانتا خط الحزب” بقبولهما الانضمام إلى الحكومة الجديدة. هذه القرارات أحدثت شرخًا عميقًا داخل حزب الجمهوريين، وأعادت إلى السطح الصراع القديم بين ريتايو وخصمه اللدود لوران فوكياز، الذي وجد في الأزمة فرصة للانتقام السياسي. فوكياز، الذي كان قد خسر أمام ريتايو في انتخابات رئاسة الحزب بنسبة 75% من الأصوات، خرج هذه المرة إلى الإعلام ليعلن صراحة دعمه لمشاركة الجمهوريين في الحكومة، متخذًا موقفًا معاكسًا تمامًا لزعيم الحزب. المشهد داخل الحزب تحول إلى صراع مفتوح، يعكس حالة من الانقسام العميق بين التيارات، في وقت كان الحزب يحاول جاهدًا استعادة مكانته كقوة سياسية فاعلة بعد سنوات من التراجع.

استطلاعات الرأي الأخيرة جاءت لتؤكد حجم السقوط المدوي لريتايو. ففي استطلاع أجرته مؤسسة “إيبسوس – بي في آي” لصالح صحيفة “لا تريبين دو ديمانش”، تراجعت شعبيته من 27% في سبتمبر إلى 20% فقط منتصف أكتوبر، وهو انهيار يعكس فقدان الثقة الكامل في قيادته. المعلق السياسي الفرنسي بريز تانتيوري أشار إلى أن “القادة السياسيين في فرنسا بدوا كأنهم يعيشون في عالم خاص بهم، غارقين في نزاعات شخصية ومنافسات تافهة، بينما يواجه المواطنون أزمات معيشية خانقة”. وأضاف أن الفرنسيين باتوا يرون في أمثال ريتايو نموذجًا للسياسي المنفصل عن الواقع، الذي يستثمر في إثارة قضايا الهوية فقط لتحقيق مكاسب انتخابية قصيرة المدى.

داخل الحزب نفسه، لم يعد أحد يثق في قدرة ريتايو على إعادة توحيد الصفوف. فقد وجهت إليه النائبة ميشيل تبارو انتقادات لاذعة خلال اجتماع المكتب السياسي قائلة: “لقد خذلتنا جميعًا، وأظهرت الحزب في صورة المراهق الغاضب. نحن بحاجة إلى العودة إلى الحكومة والتأثير في إعداد الميزانية بدل البقاء في المعارضة العبثية”. ورغم أن ريتايو تمكن من حشد 74 صوتًا من أصل 91 لصالح طرد من أسماهم “الخونة”، فإن هذا الانتصار التنظيمي المحدود لم يُخفِ الهزيمة السياسية التي مني بها في معركة الرأي العام.

إلى جانب الانقسامات الداخلية، يعاني ريتايو من تراجع صورته العامة بسبب خطابه العدائي تجاه الجزائر، والذي فسره كثيرون على أنه محاولة يائسة لكسب ودّ اليمين المتطرف. فقد أطلق منذ أشهر عدة تصريحات مستفزة ضد الجزائر، شكك فيها في جدوى الشراكة الاقتصادية بين البلدين ودعا إلى تشديد القيود على منح التأشيرات للمواطنين الجزائريين. هذا الخطاب، الذي حاول من خلاله استمالة الناخبين القوميين، لم يجلب له سوى المزيد من الانتقادات، إذ اعتبره محللون سياسيون “خطابًا استعماريًا متخلفًا” يضر بمصالح فرنسا ويعيد فتح جراح الماضي.

ومع كل هذا الفشل المتراكم، يجد برونو ريتايو نفسه اليوم معزولًا سياسيًا ومحاصرًا داخل حزب منقسم، في وقت يتراجع فيه اليمين التقليدي أمام صعود التيارات الشعبوية والمتطرفة. الكراهية التي حاول استغلالها ضد الجزائر لم تمنحه القوة كما توقع، بل تحولت إلى عبء سياسي يطارده في كل استحقاق، وجعلته يبدو كمن يقاتل أشباح الماضي في زمنٍ تغيرت فيه أولويات الفرنسيين. وفيما يسعى ماكرون لإنقاذ حكومته من الانهيار، يبقى ريتايو نموذجًا حيًا لفشل الطبقة السياسية الفرنسية في تجديد خطابها والتعامل مع واقعها الجديد، واقع تتآكل فيه السلطة من الداخل، ويبحث فيه الفرنسيون عن وجوه جديدة تقودهم خارج دوامة الأزمات التي لا تنتهي.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …