‫الرئيسية‬ الأولى الاستقرار.. حين يُترجم بالعفو
الأولى - الافتتاحية - ‫‫‫‏‫3 أسابيع مضت‬

الاستقرار.. حين يُترجم بالعفو

الاستقرار.. حين يُترجم بالعفو
قرار رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بالعفو عن بوعلام صنصال استجابة لطلب تقدّم به الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير لم يكن مجرّد فعل إنساني أو إجراء بروتوكولي بين دولتين ترتبطان بعلاقات تعاون متينة، بل خطوة سياسية محسوبة بدقة تحمل أكثر من رسالة في شكلها ومضمونها. إذ لا يمكن قراءة هذا القرار بمعزل عن المناخ الجيوسياسي الذي تتحرّك فيه الجزائر اليوم وعن الدور المتوازن الذي تحاول أن تكرّسه لنفسها كعنصر استقرار في منطقة تموج بالتحوّلات والتجاذبات.

في الظاهر، القضية تبدو إنسانية خالصة، طلب من برلين، استشارة قانونية، وقرار بالعفو وفق أحكام الدستور. لكن خلف هذه السلاسة الشكلية تقف رؤية سياسية أكثر عمقًا. الجزائر التي عايشت أزمات داخلية وإقليمية متتالية تدرك أن صورتها الخارجية لا تُبنى فقط على مواقفها في ملفات الطاقة أو الأمن، بل على طبيعة قراراتها في الملفات الإنسانية أيضًا. فالعفو في هذا السياق يصبح أداة قوة ناعمة تُستخدم لترسيخ فكرة أن الجزائر دولة قادرة على الجمع بين الصرامة والسيادة من جهة والرأفة والمرونة من جهة أخرى.

من الناحية السياسية، القرار يندرج ضمن استراتيجية واضحة يتّبعها الرئيس تبون منذ بداية ولايته، قوامها ترميم الثقة في صورة الدولة الجزائرية داخليًا وخارجيًا عبر ما يمكن وصفه بالقوة الهادئة. هذه القوة لا تقوم على الاستعراض أو المواجهة، بل على الإقناع الهادئ والمبادرات المدروسة التي تعيد رسم مكانة الجزائر كوسيط عقلاني في فضاءٍ إقليمي مضطرب. فمنذ سنوات اختارت الجزائر أن توازن بين الدفاع الصارم عن سيادتها والانفتاح على التعاون مع الشركاء الأوروبيين، خصوصًا في ملفات الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي. في هذا الإطار، جاء القرار كرسالة مزدوجة. من جهة هو تعبير عن حرص الجزائر على الارتقاء بعلاقاتها مع ألمانيا، القوة الاقتصادية والسياسية الكبرى في أوروبا، إلى مستوى الشراكة القائمة على الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة. ومن جهة أخرى هو تذكير ناعم بأن الجزائر لا تُمارس السياسة تحت الضغط، بل وفق منطقها الخاص الذي يضع السيادة في المقام الأول. وقد جاء التفاعل مع الطلب الألماني ليؤكد أن الدبلوماسية الجزائرية الجديدة قادرة على التفاعل دون التنازل، وعلى استثمار القضايا الإنسانية في تعزيز صورتها كدولة مسؤولة ومتوازنة.

أما على المستوى الإقليمي فلا يمكن تجاهل أن الجزائر تتحرّك في محيطٍ جيوسياسي هشّ يتقاطع فيه النفوذ الأوروبي مع الحضور الأمريكي والروسي والصيني في شمال إفريقيا والساحل. وفي ظلّ هذا التشابك تفضّل الجزائر أن تثبت موقعها عبر أدوات هادئة لا تُحدث ضجيجًا لكنها تترك أثرًا طويل المدى. فالعفو عن صنصال لم يكن مجرد تسوية لملف فردي بل تذكير بأن الجزائر بخلاف بعض جيرانها لا تُبنى صورتها عبر التوترات أو المناوشات الإعلامية بل عبر القرارات التي تجمع بين السيادة والعقلانية. فردود الفعل الأوروبية على القرار جاءت لتؤكد هذا المعنى. فالرئيس الألماني وصف العفو بأنه مبادرة نبيلة تعبّر عن وعي سياسي وإنساني راقٍ، فيما رأت الصحافة الألمانية والفرنسية في الخطوة الجزائرية تعبيرًا عن سيادة ناضجة ودبلوماسية متزنة. هذه العبارات التي قد تبدو بروتوكولية للوهلة الأولى تكشف في العمق عن إدراك أوروبي متزايد بأن الجزائر باتت تمثل عامل توازن في المنطقة وأنّها قادرة على التصرّف من موقع المبادرة لا من موقع الاستجابة للضغوط.

وفي المقابل فإن الخطوة لم تمرّ دون حساب داخلي دقيق. فالدولة التي تعفو لا تفعل ذلك بدافع الانفعال، بل عن قناعة بأنّ التسامح حين يصدر عن موقع القوة يتحوّل إلى تعبير عن استقرار وثقة. العفو في هذا المعنى لم يكن استثناءً في السياسة الجزائرية، بل استمرارًا لمنهجٍ يوازن بين حفظ هيبة الدولة ومراعاة البعد الإنساني. ولا يمكن فصل هذه المقاربة عن رؤية الجزائر لدورها في شمال إفريقيا. فمنذ اندلاع الأزمات في ليبيا والساحل اختارت الجزائر أن تتعامل مع المنطقة كفضاءٍ للاستقرار لا كساحةٍ للصراع، وأن تُقدّم نفسها كوسيط موثوق بدل أن تنخرط في محاور أو تحالفات ظرفية. وهذا ما يجعل قرارًا كالعفو عن بوعلام صنصال يحمل دلالة رمزية أكبر من حجمه القانوني، لأنه يعبّر عن الجزائر في لحظتها الراهنة، دولة تعرف متى تصمت ومتى تتحدث، ومتى تختار أن تُظهر إنسانيتها كأداة من أدوات قوتها الناعمة.

بهذا القرار وضعت الجزائر نفسها مرة أخرى في موقع الدولة التي تُبقي خيوط التوازن مشدودة في وجه العواصف. فالعفو لم يكن تنازلًا أمام طلب خارجي ولا تصفية حسابات داخلية، بل كان فعلًا محسوبًا بدقة يُعيد تأكيد حقيقة بسيطة لكنها عميقة، أن الجزائر وسط اضطراب الإقليم تظلّ عنصر استقرار، وأنها حين تختار الهدوء لا تفعل ذلك ضعفًا، بل لأنّها تعرف أن الصمت المدروس في السياسة أحيانًا أبلغ من ألف خطاب.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد

أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …