المخابرات الفرنسية تكشف خريطة جديدة للتطرف.. و«الماك» و«رشاد» في قلب “حرب المواقع”
كشفت جلسة الاستماع المغلقة التي احتضنتها الجمعية الوطنية الفرنسية، جانبًا بالغ الحساسية من صورة التهديدات العابرة للحدود التي تواجه فرنسا اليوم، وخصوصًا ما يتعلّق بالاختراق الإيديولوجي والتقاطع الخطير بين بعض الأوساط السياسية المتشددة وشبكات متطرفة تنشط داخل التجمّعات الحضرية الكبرى. وقد مثّلت شهادة مدير مديرية الاستعلامات بمحافظة شرطة باريس، هيوغ بريك، أمام لجنة التحقيق البرلمانية حول الروابط المحتملة بين ممثلي الحركات السياسية والمنظمات الداعمة للإيديولوجيات المتطرفة، لحظة مفصلية لأنها فتحت نافذة نادرة على كيفية تشكّل “المنظومات الانفصالية” وعلى أشكال التحالفات غير المعلنة التي تستغل السياق السياسي المتوتّر منذ السابع من أكتوبر.
فقدّم بريك، بعد أدائه اليمين القانونية، عرضًا مؤسّسًا عن طبيعة جهازه، مؤكّدًا أن مديرية الاستعلامات في باريس تعمل في قلب شبكة الاستعلامات الفرنسية، وتملك رؤية دقيقة عن الحراك الاجتماعي، وعن الجماعات الراديكالية التي تستغل المناخ السياسي أو الاحتجاجي لبناء دوائر نفوذ مغلقة. وأوضح أنّ المديرية تركّز اليوم على متابعة أكثر من خمسمائة وعشرين شخصًا مصنّفين ضمن فئة المتطرفين ذوي الطابع الإرهابي، وهو رقم ثقيل قياسًا بالكتلة السكانية وبالإمكانات المتاحة، ما يجعل مكافحة التطرف أحد أهم أعباء الجهاز.
وفي سياق عرضه، شدّد مدير المديرية على أنّ الجهاز لا يقوم بتتبع الأحزاب السياسية ولا المنتخَبين، وهو أمر محظور قانونيًا منذ عقود، لكنه أوضح أنّ المديرية ترصد “المنظومات الانفصالية” حين تتشكل على هيئة تجمعات مترابطة حول مساجد أو جمعيات أصولية، وتبدأ بفرض أنماط حياة منغلقة على سكان بعض الأحياء. وهنا تحدث بريك بصراحة لافتة عن “الإيكوسيستمات الإخوانية” التي ظهرت في بعض بلديات سين-سان-دوني، مثل لا كورنوف وسان-دوني، حيث يلتف حول بعض أماكن العبادة نسيج واسع من الجمعيات التعليمية والخيرية والاجتماعية، يتحول تدريجيًا إلى ما يشبه سلطة بديلة تتحرك داخل الحي وتبحث عن التأثير في القرار المحلي أو ابتزاز المنتخبين بطريقة غير مباشرة.
وإذا كان بريك حريصًا على التأكيد بأن جهازه لم يوثّق صلات مباشرة بين منتخبين فرنسيين وتنظيمات إرهابية، فقد كشف في المقابل عن ظاهرة مقلقة تتعلق باختراق بعض الجماعات المتشددة لفضاءات التظاهر، خصوصًا خلال مسيرات التضامن مع فلسطين بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، حيث خلقت بعض الشبكات اليمينية المتطرفة نوعًا من الالتقاء الموضوعي مع مجموعات متشددة من خلفيات مختلفة، تلتقي جميعها عند نقطة واحدة: استغلال الأزمة لإشعال الشارع الفرنسي. وأشار بريك بوضوح إلى أن بعض عناصر اليمين المتطرف ذات النزعة العدمية المعادية لليهود وجدت في خطاب بعض الجماعات المتطرفة أرضية مشتركة، ليس للعمل الميداني المنظّم، بل لتبادل “التغذية المتبادلة” للمحتوى الدعائي في الفضاء الرقمي وتوجيه خطاب الكراهية نحو الجالية اليهودية في فرنسا.
هذا النمط من التداخل بين التطرف اليميني والإسلاموي، وإن كان غير مُنظّم رسميًا، يذكّر في طبيعته، وفق عدد من الخبراء، بأنماط نشاط جماعات انفصالية تعمل في أوروبا، ومنها التنظيمان الإرهابيان “رشاد” و“الماك” اللذان يواصلان البحث عن منصات ضغط أو أدوات تأثير داخل الجاليات، مستغلّين شعارات الحرية وحقوق الإنسان لتسويق أجندات سياسية راديكالية معادية للدولة الجزائرية. ورغم أن جلسة الاستماع لم تذكر هذين التنظيمين صراحة، إلا أن بنية “الإيكوسيستم الانفصالي” التي وصفها مدير الاستعلامات تشبه إلى حدّ بعيد الأساليب التي اعتمدتها هذه التنظيمات خارج الجزائر، سواء عبر الجمعيات الواجهة أو شبكات التمويل المموّه أو محاولات استمالة بعض المنتخبين المحليين في أوروبا.
كما قدّم بريك صورة تفصيلية عن الانفجار غير المسبوق في البلاغات المتعلقة بالتطرف بعد السابع من أكتوبر، إذ تلقت المديرية خلال ثلاثة أسابيع فقط نحو 450 بلاغًا جديدًا، وهو رقم يماثل خمسة أضعاف المعدل العادي، ما يعكس حالة الاحتقان ومردود الدعاية المتطرفة التي غذّت العنف اللفظي والجسدي ضد اليهود. وأشار إلى أن بعض التجمعات التي نظّمها “ائتلاف فلسطين المستعجلة” شهدت خطابات ذات طابع تحريضي دفع المديرية إلى إحالة ملفاتها على النيابة العامة.
ورغم محاولات بعض البرلمانيين الدفع نحو ربط مباشر بين تلك الشبكات وجماعات سياسية معيّنة، ظلّ مدير المديرية متمسكًا بإطار اختصاصه، مؤكدًا أن أي علاقة “غير طبيعية” بين منتخَب وشخص متطرف ستُرفع فورًا للسلطة الإدارية، لكنه شدّد في الوقت نفسه على سلبية الأدلة المتوفرة إلى غاية الآن. إلا أنّ ما لم يقله صراحة، قالته الوقائع: “الإيكوسيستم الانفصالي” بات حقيقة، ومناخ الاحتقان يصنع أحيانًا تحالفات ظرفية بين متطرفين من مشارب مختلفة، تستغلّها بعض الجماعات الأجنبية المعادية للدول المستقرة، تمامًا كما تفعل “رشاد” و“الماك” في الدوائر الأوروبية التي تنشّط فيها.
وبذلك، خرجت جلسة الاستماع بصورة مركبة: الدولة الفرنسية تُقرّ بوجود شبكات انفصالية تتحرك داخل بعض البلديات، وتقرّ أيضًا بوجود تقاطعات دعائية بين اليمين المتطرف وجماعات متشددة، وتؤكد في المقابل أن الأدلة المباشرة على الصلات السياسية ما تزال غير قاطعة. لكن الرسالة كانت واضحة: المعركة الجديدة لم تعد محصورة في “الإرهاب التقليدي”، بل في منظومات التأثير، وفي “حرب المواقع” داخل الأحياء والجمعيات والمساجد والجامعات. وهي معركة تشبه — في بنيتها — ما واجهته الجزائر منذ سنوات مع التنظيمات الانفصالية والإخوانية المتسترة تحت عباءة “العمل المدني”.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
محاكمة “لافارج”: شهادات تكشف بالتفصيل شبكة القرارات التي قادت إلى تمويل “داعش” في سوريا
تواصلت في باريس جلسات المحاكمة التاريخية التي يُحاكم فيها عملاق الإسمنت الفرنسي لافارج بته…






