انتخابات 1995…حين واجه الجزائريون الإرهاب بالصندوق وفاز زروال بالتاريخ
مرّت أمس ثلاثون سنة على الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي فاز فيها اليمين زروال في نوفمبر 1995، وهي محطة مفصلية شكّلت منعطفاً حقيقياً في مسار الأزمة الوطنية التي كانت تعصف بالبلاد منذ إلغاء المسار الانتخابي عام 1991. ففي تلك الفترة، كانت الجزائر غارقة في العنف والإرهاب، وكانت الجماعات المسلحة في ذروة قوتها، تهدّد المواطنين بالقتل إن توجهوا للتصويت. وفي المقابل، كانت أحزاب المعارضة الرئيسية، بمختلف توجهاتها، تدعو إلى المقاطعة، معتبرة أن السلطة القائمة، والمدعومة من الجيش، تفتقر إلى الشرعية الشعبية. ورغم ذلك، أصرّ زروال، بصفته رئيساً انتقالياً يحظى بدعم المؤسسة العسكرية، على خوض غمار الانتخابات، في خطوة وصفها كثيرون في حينها بأنها مغامرة كبيرة، لأنها جاءت في ظرف أمني يُعدّ من الأكثر دموية منذ الاستقلال.

ووفق ما أوردته الشرق الأوسط في عددها ليوم 16 نوفمبر 2025، استناداً إلى أرشيف بريطاني رسمي، فإن المفاجأة الكبرى لم تكن في فوز زروال، الذي كان متوقعاً بالنظر إلى موقعه ودعمه المؤسساتي، بل في الطريقة التي جرى بها هذا الفوز. فقد خرج الجزائريون بأعداد ضخمة نحو مراكز الاقتراع، متجاهلين التهديدات الإرهابية وكاسرين حاجز الخوف الذي بنته الجماعات المسلحة. كان المشهد، كما وصفته الوثائق البريطانية التي رُفعت عنها السرية، تعبيراً عن رغبة شعبية جارفة في وقف العنف واستعادة الدولة لشرعيتها. وتشير إحدى المراسلات إلى أنّ نسبة المشاركة بلغت 75 في المائة من أصل 16 مليون ناخب، وهو رقم فاق حتى توقعات السلطة ذاتها، التي كانت تأمل في 60 في المائة فقط. وقد اعتبر السفير البريطاني في الجزائر حينها أنّ المشاركة النسائية والشبابية تحديداً كانت لافتة، وأنّ الرسالة التي وجّهها الجزائريون عبر صناديق الاقتراع تمثلت في رفض قاطع للإرهاب ورغبة قوية في بناء دولة مدنية مستقرة.
توضح الوثائق أيضاً أنّ النتائج حملت دلالات سياسية مهمة، أبرزها أنّ المنافس الإسلامي، محفوظ نحناح، لم يحقق أكثر من 25.38 في المائة من الأصوات، وهو ما يعادل أقل من خُمس الكتلة الناخبة، الأمر الذي اعتبرته لندن رفضاً واضحاً للحكم الإسلامي في تلك اللحظة الحرجة. أما دعوات المقاطعة التي تبنتها أحزاب رئيسية، مثل جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية والجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، فقد انقلبت على أصحابها، إذ اعتبرت الوثائق أنّ المعارضة «أساءت فهم المزاج الشعبي»، وأنّ مقاطعتها خدمت النظام سياسياً بشكل غير مباشر، لأنها سمحت لزروال بأن يظهر بمظهر المرشح الذي حظي بتفويض شعبي في مواجهة الإرهاب.
وعلى الصعيد الأمني، تكشف الوثائق البريطانية أنّ يوم الاقتراع كان من «أهدأ الأيام» التي عاشتها الجزائر منذ سنوات، وذلك بفضل انتشار غير مسبوق لقوات الأمن والجيش. ورغم اتهامات خفيفة بتزوير النتائج، إلا أنّ الوثائق تشير بوضوح إلى أنّ العملية الانتخابية كانت «نزيهة وشفافة» وأنّ الأرقام المعلنة «مطابقة تقريباً للواقع»، وهو ما منح النظام شرعية سياسية جديدة كان يبحث عنها منذ بداية الأزمة. وترى المراسلات أن زروال حافظ على موقعه، لكنّ هذا الفوز لم يغير حقيقة أنّ المؤسسة العسكرية ظلت اللاعب الأساسي في المشهد السياسي، وأنّ قدرة الرئيس المنتخب على التحرك بشكل مستقل كانت موضع شك كبير.
وتولي الوثائق جانباً مهماً لما سمّته «الحيرة الغربية»، إذ بدت العواصم الأوروبية غير متأكدة من كيفية التعامل مع فوز زروال. ففرنسا، التي كانت اللاعب الخارجي الأكثر ارتباطاً بالملف الجزائري، أبدت تردداً واضحاً، وامتنعت رسمياً عن استخدام كلمة «تهنئة» في الرسالة التي وُجهت باسم الرئيس جاك شيراك، رغم أنّ الوثائق البريطانية تؤكد أنّ باريس كانت «راضية سراً» عن النتيجة لأنها أضعفت الإسلاميين بشكل كبير. أمّا بريطانيا، فقد اختارت إرسال رسالة تهنئة من رئيس الوزراء، لكنها رفضت تماماً إرسال رسالة مماثلة من الملكة إليزابيث الثانية، معتبرة أنّ «السجل الأمني للنظام الجزائري» لا يسمح بمثل هذه الخطوة الدبلوماسية. أما الاتحاد الأوروبي، فقد عبّر عن ارتياحه لتنظيم الانتخابات في سلمية عالية، مؤكداً رغبته في تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع الجزائر.
وتنتقل الوثائق إلى استشراف المستقبل، مؤكدة أنّ زروال كان ينوي المضي قدماً في سياسة مزدوجة تعتمد على الحوار الوطني من جهة، وعلى القضاء على الإرهاب من جهة أخرى، مع وعد بانتخابات تشريعية العام التالي. لكن الوثائق تحذر أيضاً من أنّ الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزت التطرف لا تزال قائمة، وأنّ الجماعات المسلحة لن تتخلى بسهولة عن السلاح، رغم رفض الناخبين لها وتغير موازين القوى لصالح الجيش.
وعند النظر إلى مجمل هذه الوثائق، يتضح أن انتخابات 1995 لم تكن مجرد حدث انتخابي عابر، بل كانت نقطة تحول كبرى أنهت مرحلة من الفراغ الشرعي ودفعت البلاد نحو مسار جديد من الاستقرار النسبي. لقد استعاد النظام شرعيته، وتراجع الإرهاب تدريجياً، وبدأت الجزائر خطواتها نحو إعادة بناء الدولة، وبقيت قدرة الرئيس المنتخب على إحداث تغيير جوهري مقيدة بالواقع السياسي والأمني آنذاك. ومع مرور ثلاثة عقود، تظل تلك الانتخابات حدثاً مفصلياً في تاريخ الجزائر، لأنها مثّلت لحظة تحدٍّ جماعي كان فيها الشعب هو العنصر الحاسم في إعادة رسم مسار البلاد.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر تحذّر في مجلس الأمن.. تجفيف التمويل هو مفتاح هزيمة الإرهاب
قدّمت الجزائر عبر ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عمار بن جامع، رؤية دقيقة ومفصلة …







