‫الرئيسية‬ الأولى العدالة تلاحق “خفافيش الإشهار”.. التماس 10 سنوات حبسًا في قضية “أناب2”
الأولى - الوطني - ‫‫‫‏‫3 ساعات مضت‬

العدالة تلاحق “خفافيش الإشهار”.. التماس 10 سنوات حبسًا في قضية “أناب2”

العدالة تلاحق "خفافيش الإشهار".. التماس 10 سنوات حبسًا في قضية “أناب2”
اهتزّت قاعة محكمة القطب الجزائي الاقتصادي والمالي بسيدي أمحمد بالعاصمة الجزائرية، في ليلة طويلة من الثلاثاء إلى الأربعاء 15 و16 أكتوبر 2025، على وقع تفاصيل دقيقة ومطوّلة حول واحدة من أضخم قضايا الفساد التي عرفها قطاع الإعلام والاتصال في الجزائر، وهي قضية الوكالة الوطنية للنشر والإشهار (أناب)، المعروفة إعلاميًا باسم “أناب 2”.

الجلسة التي استغرقت أكثر من عشر ساعات متواصلة، شهدت مواجهة مباشرة بين هيئة المحكمة والنيابة العامة من جهة، والمتهمين الذين تضم قائمتهم أسماء ثقيلة في المشهد الإعلامي والسياسي من جهة أخرى، على رأسهم الوزيران الأسبقان للاتصال جمال كعوان وحميد قرين، والرئيس المدير العام الأسبق للوكالة أمين شكيير، إلى جانب إطارات ومسؤولين فرعيين داخل المؤسسة.

منذ بداية الجلسة، بدا واضحًا أن النيابة العامة أعدّت ملفًا ضخمًا مدعومًا بعشرات الوثائق والعقود والفواتير والمراسلات الإدارية التي تعود إلى فترات مختلفة ما بين سنتي 2014 و2019. وافتتح وكيل الجمهورية مداخلته بتلاوة قائمة طويلة من الاتهامات شملت تبديد أموال عمومية، منح امتيازات غير مبرّرة، إساءة استغلال الوظيفة، وتعارض المصالح، قبل أن يعلن رسميا عن التماس عقوبات صارمة بحق كبار المتهمين.

وطلب ممثل النيابة توقيع عقوبة عشر (10) سنوات حبسًا نافذًا وغرامة مالية قدرها مليون دينار جزائري ضد كل من الوزير الأسبق جمال كعوان والمدير العام الأسبق للوكالة أمين شكيير، وست (6) سنوات حبسًا نافذًا وغرامة مالية مماثلة في حق الوزير الأسبق حميد قرين، إلى جانب ثماني (8) سنوات حبسًا نافذًا وغرامة بمليون دينار لكل من م. شريف مدير فرع الاتصال والإشارات بالوكالة وب. عمار مدير فرع البريد السريع، مع التماس عقوبات تتراوح بين خمس وسبع سنوات في حق بقية المتهمين، الذين بلغ عددهم الإجمالي ثلاثة عشر شخصًا، بينهم مديرون فرعيون، محاسبون، وإطارات تقنية سابقة.

أثناء سرد الوقائع، استعرضت المحكمة كيفية تسيير الإشهار العمومي داخل الوكالة، إذ تبين من خلال الوثائق أن المؤسسة كانت توزّع المساحات الإشهارية بطريقة غير متوازنة وغير قائمة على معايير واضحة. وقد استفادت جرائد صغيرة حديثة النشأة أو شبه مجهولة من عقود بمبالغ ضخمة رغم ضعف انتشارها. واستندت النيابة إلى تقرير تدقيق داخلي يثبت أن بعض هذه الصحف لم يكن يصدر بانتظام أو كان يوزّع مئات النسخ فقط، بينما حصلت على مداخيل إشهارية تفوق في بعض الحالات عشرة أضعاف ما تتقاضاه جرائد وطنية كبيرة.

المحور الأول في الجلسة تناول العقود التي أبرمتها الوكالة مع مؤسسة “مترو الجزائر”، والمتعلقة بتسيير واستغلال المساحات الإشهارية داخل محطات المترو وعرباته. وقد أكدت هيئة الدفاع أنّ الاتفاق تم بطريقة “التراضي البسيط بين مؤسستين عموميتين”، باعتباره عقدًا ذا طابع تجاري واستعجالي، إلا أنّ رئيسة الجلسة ذكّرت بأنّ مثل هذه الصفقات تخضع قانونًا لقواعد الصفقات العمومية المنصوص عليها في المرسوم التنفيذي 15-247، وأنّ التراضي في هذه الحالات يُعدّ تجاوزًا للإجراءات القانونية.

المحور الثاني تركز على سلسلة العقود التي منحتها الوكالة لشركات خاصة دون المرور بالمناقصات القانونية، وعلى رأسها شركة “إنوميديا” (INNOMEDIA) المملوكة لأحمد كريم بن منصور، أحد أقارب الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة. وأشارت تقارير الخبرة المالية إلى أنّ هذه الشركة وقّعت عقودًا مجحفة لصالحها مع “أناب”، أدت إلى خسائر مالية فادحة بلغت 42 مليار سنتيم سنة 2019 بعد أن كانت 26.6 مليار سنتيم سنة 2017، نتيجة اتفاقيات تضمنت ما يسمى بـ “الإتاوة المضمونة”، أي مبالغ مالية تدفعها الوكالة لصالح الشركة حتى في حال عدم تحقيق العائد الإعلاني المتوقع. وقد وصفت النيابة هذه الممارسات بأنها شكل من أشكال الريع المقنّع الذي أضرّ بالمؤسسة العمومية وبمبدأ المنافسة العادلة.

خلال الاستجوابات، تبادل المتهمون الدفاع عن أنفسهم بنبرة متوترة. فقد نفى الوزير الأسبق جمال كعوان كل التهم، وظهر هادئًا في بداية الجلسة قبل أن يرفع صوته قائلاً: “الوكالة مؤسسة تجارية لا تخضع لقانون الصفقات العمومية، بل إلى منطق السوق والمعلنين.” وأضاف موضحًا: “لا يوجد في الجزائر قانون ينظم الإشهار بصفة دقيقة، ونحن عملنا وفق ما هو متاح قانونيًا.” وعندما سألته القاضية عن سبب حل مصلحة الرقابة الداخلية، قال إنها “لم تُحلّ بل تم دمجها في مصلحة التدقيق”، مضيفًا: “منذ إنشاء الوكالة، العمل يسير بالتوجيهات والتعليمات، وهذا أمر واقع.”

أما أمين شكيير، فكان أكثر حذرًا في مداخلاته، مؤكدًا أن الوكالة كانت “تسير وفق منطق تجاري تحكمه السوق والمعلنين”. واعترف بأنه صرّح رسميًا لمجلس الإدارة بأن زوجته تملك 80 بالمئة من أسهم جريدة “ريبورترز”، مؤكدًا أنه لم يمنحها أي امتياز خاص، بل إنّ الجريدة كانت تعاني من تأخر في تحصيل مستحقاتها الإشهارية، وتمت تسوية ذلك لاحقًا وفق القانون. لكنه أقرّ ضمنيًا بأن توصيات الجهاز التنفيذي والخط التحريري للصحف كانت تُؤخذ بعين الاعتبار أثناء توزيع الإشهار، وقال بالحرف: “السلطة التنفيذية كانت تتدخل أحيانًا بإشارات عامة، ونحن كنا نطبّقها من باب الانسجام لا الولاء.” كما أضاف في شهادة أثارت اهتمام الحضور: “منذ 2012، توجد سلطة ضبط الصحافة المكتوبة على الورق فقط، لكنها لم تشتغل أبدًا، ولهذا كان السوق يعمل دون حكم أو مراقب.”

أما حميد قرين، وزير الاتصال من 2014 إلى 2017، فقد قدّم رواية مغايرة، مؤكدًا أن وزارته كانت نظريًا مسؤولة عن القطاع لكنها لم تكن تملك القرار الفعلي في توجيه الإشهار، قائلاً: “القرارات الكبرى كانت تُتخذ في مستويات أخرى، وأحيانًا في رئاسة الجمهورية نفسها.” وأضاف أنه كان يوجه تعليمات لتحصيل ديون الصحف المتعثرة التي تجاوزت 200 مليار سنتيم، وأن أي اقتراح بتخصيص صفحات أو مساحات إشهارية لجرائد معينة “لم يكن إلزاميًا بل مجرّد اقتراح إداري”.

كما استمعت المحكمة إلى شهادات مطوّلة من إطارات الوكالة، بينهم مدير فرع البريد السريع الذي برّر استئجار فيلا فخمة بحي الأبيار بمشروع لإنشاء مركز للصحافة الإلكترونية “لم يرَ النور بسبب نقص الموارد”، ومدير فرع الاتصال والإشارات الذي قال إنه أعاد “إحياء هيكل إداري كان مجمدًا منذ سنة 2003”، مشيرًا إلى أن بعض العمليات كانت مربحة. لكن القاضية واجهته بوثائق تُظهر أن تلك “العمليات المربحة” لم تحقق أي فائض مالي، بل تسببت في عجز قُدّر بملياري سنتيم.

وفي جزء مطوّل من الجلسة، عرضت المحكمة قوائم الجرائد المستفيدة من الإشهار العمومي بين عامي 2015 و2019، حيث تبين أن بعض الصحف التي لا تتجاوز نسبة سحبها ألف نسخة يوميًا استفادت من إشهار يفوق عشرين مليون دينار سنويًا. وأظهرت القوائم كذلك أن بعض العناوين الصحفية كانت مملوكة أو مرتبطة بعلاقات قرابة أو مصالح مع مسؤولين في قطاع الاتصال أو موظفين في الوكالة، مما زاد من تعقيد القضية.

وقد لاحظ الحضور أن القاضية رئيسة الجلسة كانت دقيقة في استجواباتها، إذ توقفت عند كل وثيقة وطرحت أسئلة تفصيلية حول توقيت توقيع العقود، والجهة التي صادقت عليها، وطريقة تحديد قيمة الصفقة، وكيفية توزيع المساحات الإشهارية. وردّ بعض المتهمين بأن القرارات كانت تُتخذ بناءً على “مذكرات توجيهية” صادرة عن الوزارة أو رئاسة الحكومة، في حين قال آخرون إن “الأوامر كانت تأتي من مستويات عليا لا يمكن مناقشتها”.

وفي نهاية الجلسة، أعلن وكيل الجمهورية عن التماس العقوبات القصوى ردعًا لكل من “استغل منصبه للإضرار بالمال العام والثقة المؤسسية”، مؤكدًا أن النيابة “لن تتسامح مع أي شكل من أشكال الفساد المقنع مهما كانت مبرراته السياسية أو الاقتصادية”.

وتم تحديد يوم 22 أكتوبر 2025 موعدًا للنطق بالأحكام، في جلسة يُتوقع أن تشهد حضورًا إعلاميًا غير مسبوق، لما تمثله هذه القضية من منعطف في تاريخ قطاع الإشهار العمومي في الجزائر، إذ تجاوزت أبعادها الإدارية لتتحول إلى قضية رأي عام تعيد طرح سؤال جوهري حول علاقة المال بالسياسة في الإعلام.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

المدرسة العليا الجزائرية للأعمال… حيث تُصنع الكفاءات ويُرسم اقتصاد المستقبل

أطلقت الجزائر المدرسة العليا للأعمال كصرح أكاديمي يحمل رؤية جديدة لتكوين النخب الاقتصادية …