‫الرئيسية‬ في الواجهة اقتصاد الغرف المبردة… سلاح الجزائر ضد المضاربة
اقتصاد - الأولى - مال واعمال - 16 سبتمبر، 2025

الغرف المبردة… سلاح الجزائر ضد المضاربة

الغرف المبردة… سلاح الجزائر ضد المضاربة
أطلقت الجزائر برنامجاً واسعاً يهدف إلى إنشاء شبكة وطنية من الغرف المبردة لحفظ المنتجات الزراعية، في خطوة وُصفت بالاستراتيجية لمعالجة واحد من أقدم الإشكالات التي يعاني منها القطاع الزراعي والمتمثل في ضياع الفائض خلال مواسم الوفرة وانعكاس ذلك على الفلاح والمستهلك على حد سواء.

خصوصية هذا البرنامج تكمن في كونه يمنح الفلاحين إمكانية الحصول على قروض بنكية بدون فوائد موجهة حصراً للاستثمار في بناء غرف التبريد وتطوير قدرات التخزين، حيث يصل القرض إلى 150 مليون دينار جزائري مع فترة سداد تمتد لعشر سنوات، ما يتيح بناء منشآت بطاقة تتراوح بين 300 و5000 متر مكعب. وجاء هذا القرار تنفيذاً لتوجيهات رئيس الجمهورية خلال الاحتفالات بالذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين في نوفمبر 2024، حيث طالب البنوك العمومية بالتدخل لدعم الفلاحين وتوفير أدوات تحفظ لهم قيمة إنتاجهم.

وقد تم تجسيد هذه التوجيهات بتوقيع اتفاقيات أواخر يوليو الماضي بين وزارة الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري من جهة، وعدة بنوك عمومية من جهة أخرى مثل بنك الفلاحة والتنمية الريفية، والبنك الخارجي للجزائر، وبنك التنمية المحلية، والبنك الوطني الجزائري، وبنك القرض الشعبي الجزائري، وبنك الادخار والاحتياط. هذا التمويل يأتي ليعزز قدرات التخزين التي طالما كانت الحلقة الأضعف في المنظومة الزراعية الجزائرية، ويُنتظر أن يسهم في تقليص الخسائر التي كان يتكبدها الفلاحون عندما تنهار الأسعار خلال ذروة الإنتاج إلى مستويات لا تغطي تكاليف الزراعة.

هذه الخطوة ليست معزولة عن تجارب عالمية، بل تأتي في سياق نهج اتبعته دول عديدة نجحت في تحويل مشكل فائض الإنتاج إلى فرصة اقتصادية. في الهند مثلاً، كانت خسائر البطاطا والبصل والطماطم ضخمة بسبب ضعف التخزين، قبل أن تطلق الحكومة برنامج تطوير سلسلة التبريد بدعم مالي موجه للفلاحين، وهو ما أدى إلى خفض نسبة الضياع من 40% إلى أقل من 15% في بعض المناطق. مصر بدورها عانت من ضياع محاصيل البطاطا والموالح، لكنها استثمرت في محطات التعبئة والتخزين، فانتقلت إلى مصاف أكبر مصدري البرتقال عالمياً. أما المغرب، فقد طور قدراته التخزينية خاصة في قطاع الطماطم والفواكه الحمراء بدعم حكومي وأوروبي، ما عزز موقعه كمورد أساسي للأسواق الأوروبية. تركيا واجهت بدورها مشكل تلف التفاح بسبب التخزين التقليدي، فدعمت الفلاحين لبناء غرف تبريد تعتمد على التحكم في مكونات الجو، فنجحت في تسويق منتجاتها على مدار السنة. والصين، رغم ضخامتها الزراعية، كانت تفقد نحو 20% من إنتاجها، لكنها استثمرت في البنية التحتية للتخزين والنقل المبرد، وهو ما ضاعف قدرتها على تموين المدن وتوسيع صادراتها.

غير أن نجاح هذه المبادرات عبر العالم لم يكن تلقائياً، بل ارتبط بآليات رقابة صارمة لتفادي انحراف الغرف المبردة إلى أداة جديدة للمضاربة. فالهند مثلاً وضعت نظام تتبع إلكتروني لكل غرفة تبريد لتسجيل الكميات المخزنة والتدخل الحكومي عند الضرورة، بينما فرضت تركيا عقود شراكة واضحة بين الفلاحين وأصحاب الغرف لتقاسم الأرباح، وربط المغرب الدعم الحكومي بضرورة تخصيص نسبة من الطاقة التخزينية للتعاونيات الفلاحية. هذه التجارب تؤكد أن الخطر الأكبر يكمن في استحواذ الوسطاء أو كبار المستثمرين على الغرف المبردة لتحويلها إلى وسيلة احتكار، عبر شراء المحاصيل من الفلاحين بأسعار زهيدة وتخزينها ثم طرحها في السوق بأسعار مرتفعة، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم المضاربة بدل القضاء عليها.

في السياق الجزائري، تبدو هذه المخاطر قائمة إذا لم تُرافق السياسة الجديدة بآليات صارمة، إذ يمكن أن يتحقق سيناريو أول إيجابي يتمثل في امتلاك الفلاحين أدوات حقيقية للتحكم في تسويق منتجاتهم، ما يساهم في استقرار الأسعار، تقليص الخسائر، وحماية المستهلك. لكن هناك سيناريو ثانٍ سلبي قد يتحقق إذا سيطر الوسطاء على هذه المنشآت، حيث تتحول الغرف المبردة إلى وسيلة لتعطيل السوق ورفع الأسعار بشكل مصطنع. تفادي هذا الانزلاق يتطلب شفافية في منح القروض، وتكوين الفلاحين في أساليب التخزين الحديثة، وتفعيل الرقابة الميدانية، مع تشجيع الصيغ التعاونية التي تُمكّن صغار الفلاحين من امتلاك غرف تبريد مشتركة بدل تركها حكراً على كبار المستثمرين.

بهذا المعنى، فإن المبادرة الجزائرية صائبة في جوهرها لأنها تستجيب لإشكال حقيقي طالما كبّد الفلاحين خسائر فادحة وحرم المستهلك من استقرار الأسعار. كما أنها تضع الزراعة الجزائرية على طريق التحديث والاندماج في سلاسل التصدير العالمية، تماماً كما فعلت دول أخرى استفادت من الاستثمار في التخزين المبرد. غير أن النجاح سيظل رهيناً بمدى قدرة الدولة على ضبط السوق ومنع استغلال هذه المنشآت في المضاربة، وتحويلها إلى أداة لتحقيق الأمن الغذائي وتعزيز التنويع الاقتصادي، لا إلى وسيلة جديدة للاحتكار.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد

أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …