‫الرئيسية‬ الأولى باريس تُريد صنصال وغليز… وترفض تسليم الهاربين من العدالة الجزائرية!
الأولى - الوطني - مقالات - ‫‫‫‏‫3 أسابيع مضت‬

باريس تُريد صنصال وغليز… وترفض تسليم الهاربين من العدالة الجزائرية!

باريس تُريد صنصال وغليز… وترفض تسليم الهاربين من العدالة الجزائرية!
أكد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الخميس أن باريس تجري “حوارا لا بدّ منه” مع الجزائر للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال والصحافي الفرنسي كريستوف غليز. وأوقف صنصال قبل نحو عام في الجزائر وحكم عليه بالسجن لخمس سنوات بتهمة “المساس بوحدة الوطن”، فيما ينتظر غليز محاكمته أمام الاستئناف بعدما قضت محكمة ابتدائية بسجنه سبع سنوات بتهمة “تمجيد الإرهاب”.

وقال بارو في تصريح لإذاعة فرانس إنفو إنّ “حوارًا لا بدّ منه يهدف إلى حماية مصالحنا، ويتعيّن علينا أوّلًا تحقيق نتائج تتعلّق بإطلاق سراح مواطنينا بوعلام صنصال وكريستوف غليز”. وأضاف وزير الخارجية الفرنسي أنّ هذا الحوار من شأنه أيضًا أن يسمح باستئناف التعاون الأمني، موضّحًا أنّ المناطق الواقعة جنوب الجزائر تُعدّ من أهم بؤر نشاط الجماعات الإرهابية في العالم، في إشارة إلى دول الساحل الإفريقي، ولا سيما مالي حيث تنشط جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” الموالية لتنظيم القاعدة.

وتأمل باريس أيضا في استئناف التعاون في مجال الهجرة لترحيل الجزائريين الذين يواجهون وضعا غير نظامي في فرنسا. وفي ما يتعلق باتفاقية 1968 بين فرنسا والجزائر، أكد بارو دعمه لإعادة التفاوض بشأنها “في إطار احترام سيادة البلدين”. وحثّ السياسيين الفرنسيين على “التوقف عن جعل الجزائر موضوعا للسياسة الداخلية” من أجل السماح بإجراء مناقشات هادئة مع الحكومة الجزائرية، مشيرا إلى أن المسألة الاقتصادية كثيرًا ما تغيب في النقاش العام، وأن “العديد من الشركات الفرنسية، خصوصا الصغيرة والمتوسطة في قطاع الأغذية الزراعية، تعاني من التوترات التي شابت العلاقة خلال العام الماضي”. وتستمر الأزمة بين البلدين منذ أكثر من عام وشهدت طرد دبلوماسيين واستدعاء السفراء في اتجاهين متعاكسين، ما جعلها واحدة من أصعب فترات العلاقات الثنائية.

بعد هذا الخبر الذي يعكس الموقف الفرنسي الرسمي، يظهر من منظور جزائري أن باريس تتعامل مع ملف صنصال وغليز كما لو أنّه مسألة سياسية يمكن حلّها عبر الضغط الدبلوماسي، رغم أن القضيتين صدر فيهما حكم قضائي واضح، خمس سنوات سجناً لصنصال بتهمة تمسّ بوحدة الدولة، وسبع سنوات لغليز في قضية تمجيد الإرهاب، ما يجعل الملفين تابعين حصريًا للقضاء الجزائري الذي يستقلّ تمامًا عن السلطة التنفيذية. الجزائر تتعامل مع هذين الحكمين كما تتعامل فرنسا مع أحكام القضاء الخاص بها، وتعتبر أن أي نقاش حولهما يجب أن يراعي استقلالية القضاء، لا منطق المعاملة الدبلوماسية أو المقايضة السياسية.

لكن التصريحات الفرنسية لا يمكن فصلها عن سياق أوسع تعكسه ملفات أخرى ظلّت معلّقة منذ 2019، تاريخ سقوط “العصابة” وبداية حملة واسعة لمحاسبة رجال أعمال ومسؤولين. منذ تلك اللحظة، ظهرت حالات فرار نحو الخارج، خصوصًا فرنسا، لأسماء مرتبطة بملفات فساد ثقيلة. ومن أشهر هذه الملفات الملف المعروف إعلاميًا والمتعلق بالوزير السابق عبد السلام بوشوارب، الذي صدر بحقه في الجزائر حكم نهائي غيابي في قضايا فساد، ثم تقدّمت الجزائر بطلبات تسليم، رفضتها محكمة الاستئناف في آكس أون بروفانس في مارس 2025، معتبرة أنّ تسليمه قد “يؤدي إلى عواقب ذات خطورة استثنائية” وفق ما جاء في قرار غرفة التحقيق، مستندة إلى المادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وهو ما أثار انتقادات واسعة في الإعلام الجزائري واستغرابًا من تفضيل الجانب الفرنسي الاعتبارات الصحية والشخصية على مقتضيات العدالة الدولية.

إلى جانب بوشوارب، يوجد ملفّ الناشط أمير بوخرص المعروف بـ «أمير دي زاد»، الذي صدرت بشأنه مذكرات توقيف جزائرية وفتح بحقه تحقيقات في فرنسا نفسها، لكنه استفاد من إجراءات قضائية أعطته حماية مؤقتة. هذا الملف أصبح رمزًا لدى الجزائريين لخطّ فرنسي يسمح بتحويل الأراضي الفرنسية إلى ملجأ لأشخاص مطلوبين في قضايا جنائية أو قضايا تتعلق بالأمن الوطني، بينما تستعمل باريس ملفات أخرى كورقة ضغط بحجة “حماية مصالحها”.

ولا يتوقف الأمر عند الفساد. فهناك أيضًا عناصر من حركتي «رشاد» و«الماك»، وهما منظمتان مصنّفتان إرهابيتين في الجزائر منذ 2021 بقرار من المجلس الأعلى للأمن. ورغم المذكرات القضائية الجزائرية، رفض القضاء الفرنسي سابقًا تسليم بعض المتابعين في هذه الملفات، مُرجعًا ذلك إلى “اعتبارات تتعلق بحرية التعبير أو المخاطر المحتملة”، ما يُفهم في الجزائر على أنّه تغطية سياسية غير مباشرة لنشاطات منظمات تستهدف الأمن الوطني الجزائري. وهكذا بدأ يتكوّن لدى الرأي العام ما يُعرف اصطلاحًا بـ «الحركى 2.0»، وهي تسمية شعبية تطلق على مجموعة من  المقيمين في فرنسا الذين يوجّه لهم اتهام باستهداف الدولة الجزائرية عبر حملات إعلامية أو دعم جماعات تستغل الهامش الحقوقي الفرنسي لحماية نشاطها.

هذا التباين يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن لفرنسا أن تطالب الجزائر بالإفراج عن صنصال وغليز بحجة “الحوار الضروري”، بينما تمتنع في المقابل عن تسليم شخصيات مطلوبـة في قضايا موثّقة قضائيًا داخل الجزائر؟ في الجزائر يظهر هذا التناقض على أنه ازدواجية معايير واضحة، لأن التسليم في القانون الدولي قائم على مبدأ المعاملة بالمثل، لا على مبدأ الانتقاء. وإذا كانت باريس تشتكي من “تدهور التعاون القضائي”، فإن الجزائريين بدورهم يتساءلون عن سبب تعطيل تنفيذ عشرات المذكرات التي رفعتها السلطات القضائية الجزائرية نحو فرنسا.

وتزداد حساسية هذا الملف حين نضيف إليه بُعدًا اقتصاديًا. تصريحات بارو الأخيرة نفسها تعترف بأن الشركات الفرنسية الصغيرة والمتوسطة في قطاع الصناعات الغذائية “تعاني من التوترات السياسية”، ما يجعل الكثيرين في الجزائر يتساءلون عن سبب إصرار باريس على فتح ملف الهجرة والأمن فقط، بينما تتجاهل لبّ الأزمة، عدم احترام المسار القضائي الجزائري ورفض تسليم المطلوبين أو التعامل الجدي مع ملفات الفساد.

من وجهة النظر الجزائرية، فإن بناء علاقة ندّية وصحية مع فرنسا لن يتحقق عبر الضغط ولا عبر إدخال القضاء في الحسابات السياسية، بل عبر احترام مؤسسات الدولة الجزائرية كما تُحترم مؤسسات الدولة الفرنسية. وإذا كان بارو يرى أن “الحوار لا بد منه لحماية المصالح الفرنسية”، فإن الجزائر تعتبر أن حماية مصالحها تبدأ باحترام سيادتها القضائية وتنفيذ التزامات التعاون القضائي دون انتقائية. فالعلاقة بين الدول لا يمكن أن تقوم على أنصاف مبادئ، ولا يمكن إعادة بنائها وفق “شروط فرنسية” تُقدّم فيها المصالح قبل المبادئ.

إنّ استعادة الثقة بين الجزائر وفرنسا لن تتم بإطلاق سراح صنصال أو غليز، بل باسترجاع كل الملفات إلى أساسها الطبيعي، القانون. وحين تتعامل باريس مع طلبات التسليم الجزائرية بجدّية، وعندما تضع الجزائر ملفات مواطني باريس في إطار إنساني يحترم القضاء، يمكن حينها فقط الحديث عن شراكة ندّية حقيقية لا تقوم على ضغط ولا على حماية انتقائية. وحتى يتحقق ذلك، سيبقى المشهد معلّقًا بين قضاء مستقل في الجزائر، وضغوط سياسية في فرنسا، وبينهما شعوب تريد علاقات قائمة على الاحترام والعدالة، لا على تفاوت في السيادة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

فتح منصة الاطلاع على نتائج طعون «عدل 3» أمام المكتتبين

فتحت الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره عدل منصة الإطلاع على نتائج الطعون الخاصة بالمستف…