برونو ريتايو… صوت سياسي يبحث عن ضجيج
يبدو أن برونو ريتايو، رئيس حزب الجمهوريين الفرنسي، كلما وجد نفسه على هامش المشهد السياسي الداخلي، عاد إلى الموضوع ذاته الذي يجيد اللعب به: الجزائر والجزائريون. فبدلًا من أن يناقش أزمات الاقتصاد الفرنسي أو تراجع الثقة في طبقته السياسية، يختار أسهل الطرق وأكثرها شعبوية، وهي الحديث عن الهجرة، وتحديدًا عن الجزائريين المقيمين في فرنسا. في آخر تصريحاته لمجلة «لوبوان» الفرنسية، قال ريتايو إن الجزائريين “يستفيدون من امتيازات مبالغ فيها”، داعيًا إلى إلغاء اتفاقية 1968 المنظمة لوضعية الجزائريين في فرنسا.
هذا التصريح ليس جديدًا، بل هو صدى مكرر لخطاب قديم فقد بريقه منذ زمن. فكلما اهتزت الساحة السياسية الفرنسية أو اقترب موسم الانتخابات، يخرج بعض السياسيين بنفس النغمة، تحميل المهاجرين مسؤولية كل الأزمات. كأن العامل الجزائري الذي يقضي يومه بين ورشة البناء ومصنع السيارات هو سبب عجز الميزانية، وكأن الطبيب أو الممرضة من أصول مغاربية الذين يسهرون في المستشفيات لإنقاذ الأرواح هم عبء على النظام الصحي الفرنسي. من السهل دائمًا أن تُوجه اللوم إلى من لا يملك منبرًا يردّ منه.
اتفاقية 1968 التي يهاجمها ريتايو لم تكن منحة، بل ثمرة تسوية سياسية وإنسانية بين بلدٍ مستعمِر وشعبٍ خرج لتوّه من حرب استقلال مريرة. لقد كانت إطارًا قانونيًا ينظم الهجرة ويضمن الحد الأدنى من الحقوق لمن ساهموا فعليًا في إعادة بناء فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. آلاف العمال الجزائريين جاؤوا في زمن كان الاقتصاد الفرنسي بحاجة ماسة إلى سواعدهم، ولم يكونوا طارئين ولا عابرين، بل جزءًا من تاريخ فرنسا الاجتماعي والاقتصادي. فهل يمكن اليوم بعد أكثر من نصف قرن أن يُقدَّم هؤلاء كعبء بدل أن يُعترف بدورهم في بناء البلد الذي يعيشون فيه؟
ريتايو يدرك جيدًا أن تصريحاته ليست سوى ورقة سياسية. إنّه يعرف أن لا الحكومة الفرنسية قادرة على إلغاء تلك الاتفاقية بسهولة، ولا الرأي العام الفرنسي مهتم فعليًا بهذا النوع من المعارك الرمزية. لكنه يختار هذا الخطاب لأنه يُسمِع صوتَه ويُعيد اسمه إلى واجهة الأخبار. إنها طريقة قديمة لكسب الشعبية في زمن الأزمات، خلق عدو وهمي عندما تفشل في مواجهة الأعداء الحقيقيين، وتحويل النقاش من السياسات الاقتصادية والاجتماعية إلى صراع ثقافي مفتعل.
في الحقيقة، لا يعكس خطاب ريتايو سوى مأزقًا عميقًا يعيشه اليمين الفرنسي اليوم، بعد أن فقد بوصلته بين تطرف اليمين المتطرف ومحاولات الوسط استعادة التوازن. فحين يعجز السياسي عن تقديم حلول واقعية، يبدأ بالصراخ. وحين يفتقر إلى الرؤية، يرفع نبرة الصوت عله يخفي فراغ الفكرة. وهذا بالضبط ما يفعله برونو ريتايو، حين يستبدل الحوار بالعنف اللفظي، والنقاش بالاتهام، والتاريخ بالتحريض.
المؤسف في مثل هذه الخطابات أنها لا تسيء فقط إلى المهاجرين الجزائريين، بل تسيء إلى فرنسا نفسها. فبدل أن تظهر كبلد متصالح مع تاريخه، تُقدَّم كدولة ما زالت سجينة عقد الماضي. وبدل أن تناقش علاقتها بجالياتها من منظور العدالة والاحترام المتبادل، تختار أصوات سياسية أن تعيد النقاش إلى مستوى الغرائز والخوف.
برونو ريتايو لا يتحدث عن الهجرة بقدر ما يتحدث إلى جمهوره الداخلي، جمهور يشعر بالقلق من التحولات العميقة التي تعيشها فرنسا. لكنه يخطئ الهدف. لأن فرنسا الحديثة لا تُبنى على الخوف من الآخر، بل على إدماجه واحترام كرامته. والتاريخ وحده سيذكر من اختار لغة العداء ومن اختار لغة العقل. أما من يستبدل السياسة بالضجيج، فلن يترك سوى صدى قصير في فضاء مزدحم بالكلمات الفارغة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الدويرة: أزمة التعليم تتفاقم في ثانوية محمد خوجة
تعيش ثانوية محمد خوجة ببلدية الدويرة غرب العاصمة الجزائرية منذ أكثر من شهر وضعًا تربويًا م…