تفاصيل العفو عن صنصال… رواية بنجامين ستورا
يشكل العفو الرئاسي الذي استفاد منه الكاتب بوعلام صنصال محطة حساسة في مسار العلاقات الجزائرية الفرنسية، وهي محطة تناولها المؤرخ بنجامين ستورا بتفاصيل دقيقة خلال تصريحه لفرانس إنتر، حيث أوضح أن الخطوة، رغم أهميتها الإنسانية والسياسية، لا يجب أن تُقرأ باعتبارها مؤشرًا على انفراج شامل أو عودة وشيكة للدفء الدبلوماسي بين البلدين. واعتبر ستورا أن عفو الرئيس عبد المجيد تبون عن صنصال، وتمكينه من مغادرة الجزائر نحو برلين لتلقي العلاج، جاء بعد عمل طويل ومعقّد، اتسم بالهدوء الشديد وجرى بعيدًا عن الأضواء، ما يعكس حساسية الملف وتشابك الخلفيات التي أحاطت به. ويشير إلى أن ما حصل لم يكن إعلانًا بسيطًا أو إجراءً عابرًا، بل كان ثمرة مسار تفاوضي امتد لعدة أشهر وتدخلت فيه جهات دولية ودينية ودبلوماسية، الأمر الذي أعطى للخطوة وزنًا كبيرًا لكنه في الوقت نفسه جعلها غير كافية للقول إن صفحة الخلافات طُويت.
وأكد ستورا أن سلسلة من الاتصالات الدقيقة جرت منذ مدة طويلة بين الدبلوماسية الجزائرية ونظيرتها الفرنسية، وأن هذه الاتصالات كانت في غاية الحساسية لدرجة أن مشاركين فيها كانوا يتجنّبون أي تصريح أو تسريب من أجل عدم التأثير على مجرى المفاوضات. ويضيف أن ألمانيا أدت دورًا بارزًا في الوساطة، مستفيدة من علاقاتها المتوازنة مع الجزائر ومن قدرتها على صياغة موقف يضمن للخروج من الأزمة طابعًا إنسانيًا بعيدًا عن أي توظيف سياسي مباشر. كما لم يغفل ستورا الإشارة إلى الدور المهم الذي لعبه الفاتيكان، موضحًا أن تدخل رئيس أساقفة الجزائر ساعد في تهيئة مناخ أكثر ملاءمة، وأن الجانب الروحي في وساطة الفاتيكان أعطى للمسار بعدًا يختلف عن المقاربات الدبلوماسية التقليدية. ويؤكد ستورا أن هذه الأطراف الثلاثة — الجزائر، فرنسا، وألمانيا — نسّقت بحذر شديد، فيما تكفلت باريس بمتابعة الملف عبر سفيرها في الجزائر ووزير خارجيتها جان-نويل بارو، إلى جانب متابعة مباشرة من رئاسة الجمهورية الفرنسية التي كانت تطلع باستمرار على تطورات الملف وتوجهاته.
ويشدد ستورا على أن نجاح هذه الوساطة الهادئة لم يكن ليتم لولا وجود إرادة سياسية لدى الجزائر نفسها، حيث اتخذ الرئيس تبون قرار العفو في إطار سيادي مستقل، مع مراعاة الوضع الصحي لصنصال والظروف الإنسانية التي كانت تستدعي إيجاد حل. ويشير إلى أن موجة التضامن الواسعة مع الكاتب سواء داخل فرنسا أو داخل الجزائر عبر لجان الدعم ونداءات المثقفين لعبت دورًا في إبقاء القضية حيّة في الفضاء العام، لكن القرار النهائي ظل دائمًا بيد الدولة الجزائرية التي تعاملت مع الملف وفق منطقها الخاص وموازينها الداخلية. ويرى ستورا أن هذا العفو، رغم طابعه الإنساني، كان له أيضًا بُعد رمزي أعاد تسليط الضوء على طبيعة العلاقة المعقدة بين الجزائر وفرنسا، وهي علاقة ما تزال تتأثر بميراث الذاكرة وبحساسيات الماضي التي تعود للظهور عند كل أزمة أو ملف حساس.
غير أن المؤرخ، وفي الوقت الذي حيّا فيه خطوة الإفراج باعتبارها باعثًا على الارتياح، رفض تمامًا فكرة أن العفو يشكّل نقطة تحول كبرى أو بداية لمرحلة جديدة في العلاقات الثنائية. وصرّح بوضوح لفرانس إنتر بأن الأزمة تركت «آثارًا عميقة» لن تختفي بسرعة، وأن استعادة الثقة «لن تعود بسحر ما»، مؤكدًا أن الأشهر الماضية كانت مثقلة بتوترات متراكمة، سواء فيما يتعلق بالشعور السائد لدى كثير من الجزائريين بوجود حملة معادية لهم في فرنسا، أو بالشعور المقابل لدى قطاعات من الفرنسيين بأن الجزائر لا تتحرك بالشكل الكافي في ملف الترحيل وقرارات الـOQTF، وهو ما أدى إلى إضعاف الثقة وتعميق الهوة بين البلدين. ويرى ستورا أن هذه التوترات لم تكن مجرد خلافات سياسية عابرة، بل كانت جزءًا من إطار عام يعكس هشاشة العلاقة التاريخية، حيث لا تخلو أي قضية من تدخل الذاكرة وأبعادها العاطفية. ويشرح أن اعتقال صنصال نفسه أثار داخل الجزائر ما سمّاه «تأثير الراية»، إذ رأى كثيرون أن القضية باتت تُستغل خارجيًا في إطار مسيء للجزائر، ما أدى إلى التفاف شعبي ذي طابع وطني دفاعي، وهو ما يعكس مدى حساسية العلاقة بين الصراعات السياسية والخطاب الوطني في الدول التي مرت بتجربة الاستعمار.
ويضيف ستورا أن العفو عن صنصال قد يكون خطوة مفيدة لتخفيف الاحتقان، لكنه ليس كافيًا لإحداث قطيعة مع الماضي أو تجاوز التراكمات الكبيرة التي تعيق تطور العلاقات. ويعتبر أن المطلوب الآن هو بناء مسار جديد يعتمد الصراحة والهدوء والحوار، وليس التوقعات المبالغ فيها، مشيرًا إلى أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا تاريخيًا ليست علاقات بسيطة أو انفعالية فحسب، بل علاقات تتأثر باستمرار بعوامل الذاكرة وبالأحداث الطارئة، وأن أي محاولة لتحسينها تتطلب وعيًا بأن الطريق سيكون طويلًا، وأن الثقة لا تُرمّم بقرار واحد مهما كانت أهميته. وفي ختام تحليله، دعا ستورا إلى استثمار العفو كفرصة للتهدئة دون الوقوع في وهم أن الملف وحده قادر على إعادة الأمور إلى نصابها، مؤكدًا أن المستقبل سيعتمد بشكل كبير على قدرة الطرفين على التعامل مع حساسية الذاكرة، واحترام السيادة، وتجنب الخطابات المتشنجة، والعمل على إصلاح الضرر الذي تسببت فيه سنوات من التوترات المتداخلة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
فتح منصة الاطلاع على نتائج طعون «عدل 3» أمام المكتتبين
فتحت الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره عدل منصة الإطلاع على نتائج الطعون الخاصة بالمستف…







