تقارير رسمية دولية تكذب رواية أنور مالك عن تسليح الجزائر والبوليساريو
عاد أنور مالك مرة أخرى إلى واجهة الخطاب الدعائي عبر إصدار كتاب يتبنّى سردية تآمرية تربط الجزائر، إيران، والبوليساريو، مقدّماً نفسه – كالعادة – بوصفه شاهداً يحمل «وثائق استخباراتية» و«أسراراً دولية» يزعم أنه حصل عليها خلال فترة عمله خارج البلاد. وبينما يعتمد على الإثارة والتحريض ولغة الهندسة الأمنية، فإن الصدمة الأولى تأتي من حقيقة مفادها، إن كلّ ما يسوقه لا يزال خارج أي منظومة إثبات، ولا يحمل رقماً مرجعياً، ولا محضر استلام، ولا توقيع جهة أمنية، ولا ختم سيادي يسمح بوضعه في خانة الوثيقة. إنه خطاب دون ملف، وتقرير دون تحقق، وشهادة دون شاهد آخر.
يقدّم مالك مادةً تبنى على «ذاكرة حاسوب مخابراتي» سوري، ويمنحها سلطة تقرير أمني دولي. لكن، ووفق المعايير المهنية، فإن المعلومة ذات الطبيعة الاستخباراتية لا تُنشر في دار نشر تجارية، ولا تُباع في رفوف المكتبات، ولا تُسوّق في مقابلات إعلامية؛ بل تُودع رسمياً لدى لجان تحقيق أو أجهزة عدل مختصة. هنا تتساقط السردية تلقائياً، لأن القانون الدولي قبل الصحافة يفرض أن أي جهاز أمني لا يترك محتواه في سوق الكتب.
في مقابل الخطاب الإنشائي الذي يسوقه مالك، جاءت مخرجات لجان برلمانية أوروبية حديثة لتسجّل أول ضربة قاضية. فقد أكد رد رسمي لوزارة الخارجية البريطانية أمام مجلس اللوردات بتاريخ 27 أكتوبر 2025 بأنه «لا يوجد دليل موثوق يثبت دعماً إيرانياً مباشراً أو منظماً لجبهة البوليساريو». هذا الرد ليس تحليلاً ولا مقالة رأي، بل إجابة رسمية موثّقة صادقة على سؤال سياسي مباشر. وبذلك، تصبح رواية مالك خارج الإطار المعتمد دبلوماسياً.
وعلى المستوى التحليلي الأوروبي، خلص تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) إلى أن النزاع حول الصحراء الغربية وما يرافقه من توتر بين الجزائر والمغرب لا يمكن اعتباره امتداداً لمشروع تسليح إيراني في المنطقة، ولا توجد أي آلية رصد دولية تدعم هذا الطرح. التقرير يذهب أبعد إلى القول بأن السرديات المتداولة حول «أذرع الحرس الثوري» في الصحراء تفتقر إلى أي بنية ميدانية قابلة للتحقق أو الإسناد.
يُضاف إلى ذلك أنّ وحدات التحليل الأمني الغربية المعنية بمتابعة حركة السلاح وشبكات التهريب في منطقة الساحل، ومن ضمنها مؤسسات مراقبة التدفقات العسكرية الحدودية وبرامج تتبع الذخائر المعمول بها داخل الاتحاد الأوروبي، سجّلت في تقاريرها الدورية غياب أي بيانات لوجستية أو سجلات نقل أو شحن أو تفريغ تثبت وجود منظومة تسليح مصدرها إيران داخل نطاق تندوف أو في محيط تحركات جبهة البوليساريو، سواء عبر المعابر البرية أو نقاط المراقبة الجمركية أو ساحات التفتيش الحدودية، الأمر الذي جعل القراءة الغربية لهذه الادعاءات لا ترتكز على أي دليل مادي قابل للإسناد أو المطابقة وإنما تصنَّف، وفق الصيغة المهنية التي استخدمتها هذه الدوائر، كخطاب ذي وظيفة سياسية وإعلامية هدفه خلق تعبئة للرأي العام وإعادة إنتاج صورة تهديد خارجي، من دون أن يكون مؤهلاً للتحول إلى ملف قضائي أو تحقيق دولي يخضع لشروط الإثبات والمعاينة الميدانية.
تحاول سردية مالك جرّ الملف إلى خانة «شبكة تهريب سلاح» و«ذراع إيراني» و«جماعات إرهابية». لكن هذا السرد يتهاوى أمام منظومة تقارير رسمية لم تضع الجزائر يوماً في خانة ضالع في تصدير الفوضى، بل بوصفها الدولة الوحيدة في شمال إفريقيا التي خاضت الحرب ضد الإرهاب وفككت شبكات السلاح في الساحل ورفضت إقامة قواعد أجنبية على أرضها، واحتفظت باستقلال قرارها الأمني.
التناقض الجوهري في أطروحة أنور مالك أن سرديته تقوم على إسقاط «نية سياسية» على واقع لم يثبت، وتستند إلى «مخيلة استخباراتية غير مختومة». والأدهى أن محاولته تمرير هذا البناء السردي تستند إلى «وثائق سورية مزعومة» في وقت يدرك فيه المختصون أن أي مادة قادمة مما تبقى من أرشيف أجهزة الأسد لا يمكن اعتمادها بدون تحقق مستقل، بل غالباً ما تُستخدم كمواد للتضليل وترويج الخرائط الوهمية.
إن الرهان الحقيقي ليس في إسقاط المزاعم، بل في كشف طبيعتها. نحن أمام خطاب يكرر نفسه منذ عقد، يعيد تدوير بقايا سجالات إعلامية عابرة، ويستخدم النزاع في الصحراء منصةً لتسويق الذات. وفي كل مرة تعود السردية نفسها، ملفات سرية، وثائق استخباراتية، حقائق خطيرة، دون أن يولد منها ولو تقرير واحد في مجلس الأمن أو مذكرة متابعة أممية أو لجنة تقييم دولية.
وعليه، فإن الرد لا يحتاج إلى رفع الصوت بل إلى وضع الوقائع في مكانها. ما لدى مالك ليس وثائق، بل عبارات. وما يسميه كشفاً ليس سوى إعادة ترتيب للخوف السياسي في قالب ثقيل. الحقيقة الوحيدة أن الادعاء بلا مرجعية، والاتهام بلا هيئة، والنص بلا ختم. فالدول لا تُدان بكتب، ولا تُتّهم بخيال، ولا تُحاصر بسرود بلا أصل.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
فرنسا.. “الجمهورية الوهمية” ومشروع التخريب ضد الجزائر
إعلان فرحات مهني لما يسميه “استقلال منطقة القبائل” انطلاقاً من باريس، ليس مجرد…





