دولةٌ تُبصر… وحملاتٌ تتكسّر
أعاد قرار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بالعفو عن الكاتب بوعلام صنصال تشكيل المشهد السياسي والدبلوماسي المحيط بالقضية، في لحظة كانت فيها أطراف يمينية متطرفة في أوروبا تسعى إلى استغلال الملف لترويج روايات مشوّهة عن الجزائر، ضمن محاولة لصناعة صورة نمطية تربط الدولة باتهامات جاهزة لا تستند إلى وقائع. غير أن العفو، الذي جاء في توقيت بالغ الحساسية، عكس مقاربة هادئة اعتمدتها الدولة الجزائرية في إدارة الملف، بعيدًا عن ضغط الحملات ومحاولات الاستثمار السياسي الخارجي.
وكشف المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، في تصريح لـ”فرانس إنتر”، أن الفاتيكان كان أحد أبرز الأطراف التي دخلت على خط الوساطة، إلى جانب تحركات ألمانية واتصالات دبلوماسية فرنسية جرت في كنف السرية. هذا المعطى، الذي لم يكن معلنًا قبل تصريحات ستورا، يوضح حجم التشابك الدبلوماسي الذي أحاط بالقضية، ويؤكد أن الملف تجاوز الطابع القضائي ليُصبح ساحة اختبار سياسي بين الجزائر وعدد من العواصم الأوروبية. ورغم محاولات تضخيم الملف، فإن الجزائر اختارت مسارًا هادئًا ومدروسًا، حافظت من خلاله على سيادتها وفرضت معاييرها دون ضجيج.
وفي خلفية الضجة التي رافقت القضية، برزت محاولات لجرّ الجزائر إلى صورة نمطية تربطها بالشمولية وبخطابات “الإسلام المتطرف”، في إطار مساعٍ لخلق انطباع بأن الدولة تشكل تهديدًا في محيطها الإقليمي. وقد استثمرت بعض الدوائر السياسية والإعلامية هذا السياق لتضييق مجال الحركة أمام الجزائر أو الحدّ من حضورها المتنامي في المنطقة. كما حاولت أطراف إقليمية لها خلافات متجذرة مع الجزائر، إلى جانب جهات دولية تُعيد حساباتها الجيوسياسية في شمال إفريقيا، استغلال الملف لإضفاء طابع أمني مبالغ فيه على قضية لا تتجاوز في جوهرها إطارها القضائي. هكذا تحوّل اسم صنصال، عند هذه الجهات، إلى أداة لتغذية خطاب التهويل، في سياق يتجاوز الملف ذاته ليمس صراع النفوذ في شمال افريقيا والفضاء المتوسطي.
وتبرز الرمزية الأعمق للقرار في بعده القيمي. فالجزائر، التي ينص دستورها في مادته الثانية على أن الإسلام دين الدولة، قدمت عبر هذا العفو رسالة واضحة عن طبيعة الإسلام الذي يوجّه رؤيتها السياسية، إسلام الرحمة والاعتدال، لا الإسلام المصنوع في مخيلة التيارات المتطرفة التي حاولت تشويه صورة الجزائر. وقد اكتسب القرار وزنًا مضاعفًا لأنه صدر تجاه بوعلام صنصال، الذي يصف نفسه بأنه كاتب علماني وغير مسلم، وهو ما يجعل خطوة العفو أكبر من مجرد إجراء قانوني، بل إعلانًا عن قدرة الدولة على تجاوز الاختلاف الفكري والديني لصالح قيم أعلى تتعلق بحماية الإنسان وصون كرامته. وهذه المقاربة الإنسانية والسياسية منحت القرار صدى واسعًا داخل الجزائر وخارجها، باعتباره ردًا عمليًا على الاتهامات التي حاول البعض إلصاقها بالدولة الجزائرية.
ولم يقتصر أثر القرار على الداخل فحسب، بل وجد إشادة كبيرة في الأوساط الدولية، إذ اعتُبر مثالًا على أن الجزائر دولة تتصرف بمنطق المؤسسات وتوازن بين سيادتها وانفتاحها. كما أن قبول الجزائر بالوساطة من طرف الفاتيكان، أحد أكبر الرموز الروحية في العالم، أظهر ثقة الدولة بمكانتها وعلاقاتها، وأكد أن المرجعية الإسلامية ليست عائقًا أمام الحوار، بل إطارًا أخلاقيًا يمنح قراراتها السياسية شرعية إنسانية إضافية.
ويتجاوز قرار العفو عن صنصال حدوده المباشرة ليرسم صورة أوضح عن كيفية إدارة الجزائر للملفات الحساسة في لحظات التوتر. فقد واجهت الدولة حملة تشويه محكمة ببرودة أعصاب، وقدّمت نموذجًا لدولة تعرف متى تتصرف ومتى تصمت، ومتى تحسم. إنها خطوة تؤكد أن السيادة لا تُعلن بالشعارات، بل تُمارس بالقرارات الهادئة، وأن قوة الجزائر اليوم تكمن في قدرتها على إطفاء الأزمات لا إشعالها، وعلى تقديم روايتها الخاصة بعيدًا عن التشويش، رواية دولة تثق في نفسها وفي قيمها وفي موقعها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر تحذّر في مجلس الأمن.. تجفيف التمويل هو مفتاح هزيمة الإرهاب
قدّمت الجزائر عبر ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عمار بن جامع، رؤية دقيقة ومفصلة …







