فرنسا.. “الجمهورية الوهمية” ومشروع التخريب ضد الجزائر
إعلان فرحات مهني لما يسميه “استقلال منطقة القبائل” انطلاقاً من باريس، ليس مجرد حدث إعلامي عابر، بل خطوة سياسية مكتملة الأركان تعكس تورطاً فرنسياً مباشراً في إعادة تدوير مشروع تقسيمي قديم سبق للجزائر أن أسقطه شعبياً ودستورياً وتاريخياً. ما قام به مهني لا يحمل وزناً على المستوى الداخلي ولا يجد أي سند اجتماعي أو تاريخي، لكنه يكشف حجم الرهان الخارجي على محاولة ضرب وحدة الدولة الوطنية تحت غطاء ادعاءات حقوقية وسياسية لا صلة لها بحقائق التاريخ. فالمنطقة التي يُراد اختزالها في بيان انفصالي كانت، منذ عهد ماسينيسا وما بعده، مكوّناً أصيلاً في الهوية الجزائرية، وليس مجالاً لاستثمار سياسي عابر أو ملف مقايضة في لعبة نفوذ بين باريس والضفة الجنوبية.
الخطورة لا تكمن في محتوى الإعلان، بل في منصته، العاصمة الفرنسية. باريس منحت لهذا الخطاب موقعاً رسمياً، وأخرجته من خانة الحراك الفردي إلى مصاف الورقة الدولية، ما يعني أن فرنسا لم تعد تكتفي بتصريحات استفزازية أو حملات إعلامية متواترة، بل انتقلت إلى مستوى سياسي مباشر قد ينعكس على مستقبل العلاقات الثنائية. ومن الصعب إقناع الرأي العام الجزائري، أو حتى المراقبين الدوليين، بأن باريس استضافت إعلاناً انفصالياً بهذا الحجم دون علم أو موافقة دوائر القرار الفرنسية.
منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى الحكم، تغيّر مسار الجزائر جذرياً، سيادة قرار مستقل، قطعية سياسية مع شبكات الريع العابرة للحدود، توجه خارجي متحرر من منطق التبعية، وتحالفات استراتيجية خارج المدار التقليدي لفرنسا. هذه التغييرات حرّرت الاقتصاد الوطني من القنوات المالية الموازية التي كانت تنتهي غالباً في مصارف باريس، وهو ما أكدته تحقيقات قضائية جزائرية في ملفات فساد تمتد خيوطها إلى شبكات فرنسية موثقة.
ردود الفعل الفرنسية المتصاعدة ليست معزولة عن هذا التحول. ففرنسا الرسمية، وفق شهادات علنية لسفراء ووزراء سابقين، لم تتقبل بسهولة خروج الجزائر من وضع “الشريك الموجّه” إلى وضع “الدولة السيادية الكاملة”. ومن هنا نفهم سياق التصعيد، تضييق قنصلي، محاولات تشويه إعلامي، تصريحات سياسية متعاقبة، ثم الآن احتضان مشروع انفصالي لا قيمة له داخلياً لكنه يحمل كثافة رمزية خطيرة خارجياً.
هذه ليست أول مرة تلجأ فيها فرنسا إلى أدوات التفكيك الناعم في شمال إفريقيا والساحل، لكن المستجد هو مستوى المواجهة. ما حدث يمثل أعلى درجات الاستفزاز الفرنسي منذ 1962. فالمحادثات السابقة حول التأشيرات، أو حرب التصريحات حول الذاكرة، لم تصل يوماً إلى هذا الحد من المجاهرة بمسّ وحدة الدولة الجزائرية.
الجزائر، بدورها، لا تقرأ الخطوة على أنها بيان لـ “جمهورية وهمية”، بل كرسالة سياسية بصيغة الضغط الدولي. وبدلاً من الانفعال الوقتي، تتحرك وفق رؤية جيوسياسية تعيد التموضع بشكل أوضح داخل دوائر دولية بديلة، تعاون متقدم مع الصين، شراكات في إطار بريكس، حضور قوي في إفريقيا، وإغلاق المجال أمام أي وصاية فرنكوفونية جديدة. فرنسا اختارت توقيتاً غير ملائم، في لحظة تفكك أوروبية وصعود موازين بديلة في الجنوب العالمي، ما يجعل حركتها مكلفة سياسياً واستراتيجياً في المدى المتوسط.
الخط الوطني الذي أعيد ترسيخه منذ 2019، وتدعّم مع الرئيس تبون، يقلق منظومات الإرث الاستعماري، لأنه ينزع عن فرنسا أهم أدواتها التقليدية، التحكم في القرار الاقتصادي، التأثير على القرار الدبلوماسي، وتوجيه قطاع الطاقة. ومحاولة توظيف ورقة الانقسام العرقي أو الجهوي ليست سوى امتداد لهذا القلق، ومحاولة أخيرة لاختبار تماسك الجزائر من الداخل بعد أن سقطت كل رهانات الضغط السابقة.
لكن باريس، التي تراهن على خطاب تقسيمي بلا سند شعبي ولا قاعدة سياسية، تتجاهل أن الجزائر ليست نظاماً هشاً ولا دولة مسحوقة. هي دولة ذات تاريخ سياسي عميق، جيش عقيدة جمهورية، ووحدة وطنية تأسست بالنار والدم، لا ببيانات موسمية. ما حدث في باريس لن يتجاوز حجمه الرمزي، لكنه سيبقى مؤشراً فاصلاً في سجل العلاقات الجزائرية الفرنسية: انتقال من التوتر إلى العداء السياسي المكشوف، ومن إدارة الخلاف إلى إدارة الصراع.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لماذا يُحارَب المدرب الجزائري حين ينجح؟
بدأتُ أقتنع أكثر فأكثر بأنّ المدرب الوطني، كلما كان جزائريًا، كلما تصاعدت الأصوات لمهاجمته…






