من الانقسام إلى الإبادة… كيف خدمت حركة حماس المشروع الصهيوني؟
تتكرر محاولات لتسويق ما جرى في غزة على أنه «انتصار للمقاومة» بقيادة حركة حماس، رغم أن الواقع الميداني والإنساني والسياسي يؤكد العكس تمامًا. ما حدث في الحقيقة ليس انتصارًا بل مأساة كبرى دفع ثمنها الشعب الفلسطيني وحده، بينما خرج الكيان الصهيوني من الحرب وقد حقق أغلب أهدافه المعلنة وغير المعلنة.
لقد تم في الآونة الأخيرة تداول منشورات صادرة عن أطراف تُعرّف نفسها بانتمائها إلى ما يسمى «حماس الجزائرية»، التي اختارت تعديل اسمها لتبدو مختلفة عن الحركة الأم في فلسطين. غير أن هذا التغيير في الشكل لا يخفي التوافق في المرجعية الفكرية والمشروع السياسي العام. ويبدو أن الهدف من هذا الخطاب هو تبرير ما جرى في غزة باعتباره «انتصارًا»، رغم أن التجربة الميدانية والإنسانية أظهرت أن السياسات المتبعة من قبل الحركة أفضت إلى نتائج مأساوية، وأدخلت الشعب الفلسطيني في دوامة جديدة من المعاناة.
الدمار الذي لحق بغزة لا يمكن تسويقه بأي شكل من الأشكال كنصر. القطاع دُمّر بالكامل، وإزالة الركام وحدها ستتطلب خمسة عشر عامًا من العمل، بينما إعادة الإعمار ستحتاج إلى عقود طويلة. تشير الأرقام إلى سقوط أكثر من سبعين ألف شهيد، بينهم أحد عشر ألف طفل، إضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى والمفقودين والمشرّدين. دُمّرت المنازل والمستشفيات والمدارس، وتوقفت المياه والكهرباء، وفقد القطاع مقومات الحياة كلها.
رغم هذا المشهد الكارثي، تصرّ حماس على وصف ما حدث بأنه «نصر»، في حين أن الحقيقة الصادمة هي أن الكيان الصهيوني استفاد من الحرب أكثر من أي طرف آخر. فقد منحته حماس الذريعة التي كان ينتظرها منذ سنوات لتدمير القطاع بالكامل، وتصفية ما تبقى من فكرة الدولة الفلسطينية. لا يمكن اعتبار ما جرى نصرًا للمقاومة، بل هو في جوهره خدمة مجانية للمشروع الصهيوني الذي يسعى إلى إفراغ غزة من سكانها وتحويلها إلى منطقة غير قابلة للحياة.
منذ سيطرة حماس على القطاع عام 2007، انقسم الفلسطينيون إلى كيانين متنازعين، غزة تحت حكم حماس والضفة الغربية تحت سلطة رام الله. خلال ذلك الانقلاب الدموي، قُتل ما يقارب ثمانمائة فلسطيني من حركة فتح، وأُلقي بعضهم من فوق العمارات، ونُفّذت إعدامات في الشوارع. بذلك انتهى حلم الوحدة الوطنية، وتحولت غزة إلى منطقة معزولة خاضعة لحكم فصيل واحد.
شمعون بيريز كتب في مذكراته أن «إسرائيل هي من ساعدت في نشوء حماس». لم يكن ذلك مبالغة، بل إقرارًا بأن الكيان الصهيوني وجد في صعود حماس وسيلة لتقويض منظمة التحرير الفلسطينية ومشروع الدولة المستقلة. ومع مرور الزمن، تحقق هذا الهدف، انقسام فلسطيني حاد، تعطيل للمؤسسات الوطنية، وفصل كامل بين غزة والضفة، ما جعل من المستحيل تقريبًا قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا.
كانت غزة في الأصل القلب الاقتصادي والسياسي للمشروع الوطني الفلسطيني. فيها الميناء والمطار الدولي اللذان ربطا الفلسطينيين بالعالم الخارجي، ومنها غادر ياسر عرفات في رحلاته الرسمية. كان المخطط أن تُربط غزة بالضفة عبر طريق آمن لا يخضع لرقابة الكيان الصهيوني. لكن حماس، بسيطرتها على القطاع، أجهضت هذا المشروع بالكامل، إذ دمّر الاحتلال المطار ومنع بناء الميناء، وأُغلقت كل فرص التواصل بين شطري الوطن.
قبل الحرب الأخيرة كانت غزة شبه مستقلة بعد انسحاب الكيان الصهيوني منها وتفكيك مستوطناته عام 2005. تلك المرحلة كانت فرصة تاريخية لتحويل القطاع إلى نموذج لبناء الدولة الفلسطينية، لكن حماس، بعقيدتها الرافضة لمفهوم الدولة الوطنية، ضيعت هذه الفرصة. فبدل إنشاء مؤسسات مدنية، كرّست حكم الفصيل الواحد، الأمر الذي منح الكيان الصهيوني مبررًا لمحاصرة القطاع ومنع تطوره.
في السابع من أكتوبر، نفذت حماس عملية عسكرية ضد الكيان الصهيوني. العملية شكلت الذريعة التي كان الاحتلال ينتظرها ليطلق حربه الكبرى على غزة. الشواهد العديدة تشير إلى أن الكيان كان على علم مسبق بما يجري، وأنه استغل الحدث لإطلاق عملية إبادة وتدمير شامل. النتيجة كانت دمارًا كاملًا لغزة، وإعادة احتلال أجزاء منها، وتقسيمها إلى منطقتين تخضعان لرقابة مباشرة من جيش الاحتلال.
الحرب تزامنت مع تحركات اقتصادية كبرى في المنطقة، أبرزها مشروع «قناة بن غوريون» الذي صادقت عليه مجموعة العشرين في الهند، والذي تم تعديل مساره ليخرج قريبًا من شمال غزة نحو البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب الاكتشافات الغازية الكبيرة في سواحل غزة. هذه التطورات تؤكد أن الكيان الصهيوني كان يعدّ خطة استراتيجية للاستفادة من موقع غزة الجغرافي وثرواتها الطبيعية بعد إفراغها من سكانها.
ما جرى لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل إعادة رسم للخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة. الكيان الصهيوني دمّر غزة تحت عنوان «محاربة الإرهاب»، ووجد في حماس مبررًا مثاليًا لتنفيذ سياسته. وفي المقابل، قدمت حماس للكيان الصهيوني الحجة التي كان يحتاجها لتدمير القطاع وإنهاء حلم الدولة الفلسطينية.
الحرب الأخيرة لم تُضعف الكيان الصهيوني كما تزعم بعض وسائل الإعلام، بل منحته تفوقًا سياسيًا واقتصاديًا واستراتيجيًا. في المقابل، انهار ما يسمى بـ«محور المقاومة»، وتراجعت قدرات حزب الله في لبنان، واهتزّ الوضع في سورية التي كانت جزءًا من هذا المحور. لقد أضعفت الحرب كل الأطراف التي كانت تُعرّف نفسها بأنها داعمة للمقاومة، وأبقت الكيان الصهيوني وحده الرابح الوحيد.
الخطاب العقائدي الذي يربط المقاومة بأفكار دينية غيبية مثل «تحرير القدس تمهيدًا لعودة المهدي المنتظر» لا علاقة له بالمشروع الوطني الفلسطيني، بل يُستخدم لتبرير صراعات طويلة لا أفق لها. في المقابل، تغيب الأهداف الواقعية لبناء الدولة الفلسطينية، ويتحوّل شعار المقاومة إلى أداة سياسية بيد القوى الإقليمية.
ما نعيشه اليوم يذكّرنا بما قاله المجاهد عمر بوداود في ذكرى 17 أكتوبر 1961 عندما أقرّ قرار تنظيم مظاهرات باريس بعد أن نوقش الأمر مع قيادة الثورة في تونس. قال له المسؤول القيادي يومها: «نفذ، وإن نجحت فشكرًا لك، وإن فشلت فمكانك السجن». هذه الجملة تعبّر عن روح المسؤولية التي كانت تميز قادة الثورات الحقيقية، حيث تُحاسَب القيادة على النتائج. لو طُبّق هذا المبدأ اليوم، لكان من الطبيعي أن تتحمل القيادات التي قررت المغامرة العسكرية مسؤولية ما جرى لغزة.
الانتصار لا يُقاس بعدد الصواريخ، ولا بحجم الدمار في صفوف العدو، بل بالنتائج التي تحققها الشعوب. ما حدث في غزة منح الكيان الصهيوني كل ما كان يسعى إليه، تدمير القطاع، تهجير السكان، دفن مشروع الدولة الفلسطينية، والسيطرة على الموارد والثروات الطبيعية. أما الفلسطينيون، فقد خرجوا من الحرب بلا دولة ولا أفق ولا مقومات حياة.
المطلوب اليوم هو مواجهة الحقيقة كما هي، لا كما تُرسم في الخطب والشعارات. المقاومة الحقيقية هي التي تحمي الإنسان وتبني الدولة، لا التي تحرق المدن وتبرر الدمار باسم البطولة. حماس لم تنتصر، وغزة لم تتحرر، بل ضُربت في عمقها ومُحيت ملامحها العمرانية والحضارية، بينما الكيان الصهيوني خرج أكثر قوة وأقل محاسبة.
حمى الله فلسطين من الشعارات الزائفة، ووقى الجزائر وسائر الأمة من مغامراتٍ تقود إلى الخراب بدل التحرير، ومن أوهامٍ تتكرر باسم الدين والمقاومة بينما تخدم، في النهاية، مصالح الكيان الصهيوني نفسه.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
سيوف الرعب تهدد أمن الجزائريين!
اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر مقطع فيديو يوثّق لحظاتٍ من العنف الهمجي، في مشهد …