‫الرئيسية‬ الأولى هل أنهت الجزائر مغامرة “فاغنر” في مالي؟
الأولى - الوطني - مقالات - 8 يونيو، 2025

هل أنهت الجزائر مغامرة “فاغنر” في مالي؟

انسحاب المرتزقة الروس .. هل أنهت الجزائر مغامرة فاغنر في مالي؟
انسحاب فاغنر من مالي لم يكن مجرد تطور عسكري ميداني؛ بل تحول استراتيجي أعاد رسم ملامح النفوذ في منطقة الساحل. فقد جاء الانسحاب المعلن عنه في السادس من جوان 2025 بعد سلسلة من الهزائم الميدانية، وتصاعد الضغوط الإقليمية، وعلى رأسها الضغوط التي مارستها الجزائر بأساليب دبلوماسية وأمنية، دون اللجوء إلى مواجهة مباشرة.

لم يكن انسحاب “فاغنر” مجرد قرار ميداني أو نتيجة إخفاق عملياتي فحسب؛ بل جاء في سياق توازنات إقليمية دقيقة، فرضتها قوى ذات وزن جيوسياسي حقيقي، على رأسها الجزائر. دولة تعرف من أين تُمسك بخيوط التأثير؛ دون ضجيج، ودون شراكة مع المرتزقة، ودون أن تُفرّط في مبادئ السيادة والأمن الجماعي الإقليمي.

منذ العام 2021، تاريخ دخول “فاغنر” إلى المشهد المالي، أبدت الجزائر موقفًا مبدئيًا صارمًا تجاه الوجود العسكري الأجنبي غير النظامي في دول الجوار. فقد اعتبرت الجزائر أنّ عسكرة الساحل الإفريقي، خارج مظلة الشرعية الدولية أو الإجماع الإقليمي، يشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ولمعادلات الاستقرار في المنطقة المغاربية والإفريقية. وقد جاء بيان وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، الصادر في 20 ديسمبر 2024، واضحًا وصارمًا في هذا السياق، حيث جاء فيه: “إن المقاربة الأمنية الأحادية المفروضة على شعوب الساحل لا تخدم الاستقرار، والحل الحقيقي يمرّ عبر العودة إلى اتفاق الجزائر للسلام والمصالحة، كإطار شرعي ووحيد لتسوية الأزمة في مالي.”

هذا البيان لم يكن معزولًا عن خطوات عملية لاحقة؛ ففي أفريل 2025، قرّرت الجزائر إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المدنية والعسكرية القادمة من مالي، وهي خطوة اعتبرتها صحيفة The Times البريطانية (29 أفريل 2025) “إجراءً دبلوماسيًا هجوميًا يعبّر عن رفض جزائري واضح للنفوذ الروسي المتزايد في الجنوب الصحراوي”.

لم تكتفِ الجزائر بإغلاق الأجواء؛ بل أرسلت رسائل ميدانية مشفّرة وواضحة في آن. فقد شهدت مناطق الحدود الجنوبية، خاصة قرب “تينزواتين”، تحركات كثيفة لسلاح الجو الجزائري، وطلعات مراقبة واستطلاع غير مسبوقة، رافقتها عمليات نشر نوعية لوحدات الاستطلاع المتقدمة. ووفق ما أورد موقع Africa Intelligence (2 ماي 2025)، فإن القيادة العسكرية الجزائرية أعادت توزيع تمركزات قواتها في الجنوب، ضمن خطة هدفها “احتواء أي اختراق عسكري غير مرغوب فيه على حدودها الجنوبية، وتأمين العمق الصحراوي من أي نشاط محتمل لفاغنر أو حلفائها”.

هذه التحركات، وإن لم تعلن الجزائر عنها رسميًا، جاءت في سياق متزامن مع إخفاقات روسية ميدانية متكررة، مما زاد الضغط على موسكو، ودفعها نحو مراجعة إستراتيجيتها المكلفة وغير المجدية في مالي.

تدرك الجزائر جيدًا أنّ شمال مالي ليس مجرد جغرافيا معقدة؛ بل منطقة تربطها بها روابط إنسانية وتاريخية ومصالح أمنية راسخة. ولهذا السبب، أعادت تحريك أوراقها السياسية مع الحركات الأزوادية المطالبة بالحكم الذاتي.

ففي مارس 2025، استقبلت الجزائر وفدًا من “تنسيقية حركات أزواد”، كما كشفت صحيفة Jeune Afrique (العدد 3147). ورغم غياب الإعلان الرسمي، فإن مصادر مطلعة أفادت بأن اللقاء تناول بشكل مباشر مستقبل اتفاق الجزائر، وسبل تفعيل آلياته، وضرورة انسحاب القوات الأجنبية – خصوصًا “فاغنر” – من الشمال المالي.

وقد دعمت هذا الاتجاه الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، التي أصدرت بيانًا بتاريخ 18 فيفري 2025، طالبت فيه بـ”انسحاب كل القوى العسكرية غير النظامية من أرض أزواد”، معتبرة أن وجود فاغنر “يعمّق الصراع ويُفرغ العملية السياسية من محتواها”. في المقابل، لم يكن أداء “فاغنر” على الأرض كافيًا لحماية موقعها في مالي. فقد أظهرت المواجهات التي شهدتها بلدة “تينزواتين” في يوليو وديسمبر 2024، مدى هشاشة قدراتها الميدانية. حيث فشلت مرتين في بسط السيطرة على البلدة، وواجهت مقاومة شرسة من مقاتلي تنسيقية أزواد.

ووفق ما جاء في تقرير نشرته Le Monde Afrique (4 جانفي 2025)، فإن “فاغنر تكبّدت خسائر بشرية وميدانية فادحة، بعد أن تمكن مقاتلو أزواد من فكّ الحصار المفروض على تنزواتين، ما أجبر المرتزقة الروس على الانسحاب تحت ضغط ميداني مكثف، وسط تراجع في الإسناد الجوي الروسي”.

ولم تكن الهزائم محصورة في الشمال؛ فقد ارتفعت وتيرة الهجمات الجهادية في وسط مالي ومحيط العاصمة باماكو. ووفقًا لتقرير صادر عن مشروع ACLED، سُجل خلال الربع الأول من 2025 ما لا يقل عن 84 هجومًا مسلحًا استهدف قواعد تابعة للجيش المالي، رغم الوجود الكثيف لعناصر “فاغنر” على الأرض.

في نهاية ماي 2025، زار وفد دبلوماسي روسي الجزائر بشكل غير معلن. وذكرت صحيفة El País الإسبانية (31 ماي 2025) أن الزيارة كانت تهدف إلى “احتواء التصعيد الدبلوماسي بين موسكو والجزائر، ومحاولة تهدئة الخلافات حول مستقبل الساحل والدور الروسي فيه”.

تزامن هذه الزيارة مع إعلان الانسحاب يشير إلى أن الجزائر لم تكتفِ بالرفض الكلامي أو الضغط غير المباشر؛ بل نقلت موقفها بوضوح إلى الجانب الروسي، في مسعى لتقليص أي دور أجنبي غير مرغوب فيه قرب حدودها.

من خلال هذا الملف، تثبت الجزائر مجددًا أنها ليست مجرّد طرف إقليمي يراقب من بعيد، بل فاعل مركزي يدير توازنات المنطقة بصمت استراتيجي وهدوء دبلوماسي محسوب. لم تلجأ إلى التدخل المباشر، ولم تحتج إلى المواجهة الصريحة؛ بل فرضت رؤيتها على المشهد المالي بأساليب غير تصادمية، مستندة إلى رصيدها التاريخي، وعمقها السياسي، وشبكة تحالفاتها المحلية والإقليمية.

بهدوء، حرّكت الجزائر أدواتها الدبلوماسية والأمنية، دون أن تثير صراعات معلنة؛ أعادت إحياء اتفاق الجزائر للسلام، وأعطته دفعة سياسية جديدة في لحظة كانت فيه المعادلات تختنق بالسلاح والارتزاق. ثم، من موقع العارف بخريطة النفوذ، دفعت نحو انسحاب المرتزقة الروس من خاصرتها الجنوبية، دون أن تطلق رصاصة، أو تتراجع عن مبادئها.

هكذا قدّمت الجزائر درسًا في فن إدارة الملفات الجيوسياسية، لا حاجة للصراخ ولا للتورط في المغامرات؛ يكفي أن تضبط الإيقاع، وتقرأ اللحظة، وتبني توازنًا جديدًا يقوم لا على منطق القوة، بل على منطق الشرعية والمشروعية والوعي العميق بالرهانات.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…