الجنسية.. بين منطق الدولة وحق المواطن
يثير التعديل الكامل لقانون الجنسية الجزائرية، الذي صادق عليه المجلس الشعبي الوطني في 24 ديسمبر 2025، نقاشًا وطنيًا واسعًا بالنظر إلى حساسية الموضوع وارتباطه المباشر بأسس الانتماء القانوني للدولة. فالجنسية ليست مجرد صفة قانونية تُنظم بنصوص تقنية، بل هي رابطة سيادية تؤسس لعلاقة دائمة بين الفرد والدولة، وتُعد من أهم مظاهر السيادة الوطنية التي تمارسها الدول وفق قواعد دستورية وضوابط دولية دقيقة.
المشرّع قدّم هذا التعديل باعتباره استجابة لحاجة موضوعية إلى تحيين الإطار القانوني للجنسية بما يتماشى مع أحكام الدستور الجزائري والالتزامات الدولية التي صادقت عليها البلاد، لا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان ومنع حالات انعدام الجنسية. وقد أكد النص بوضوح أن التجريد من الجنسية إجراء استثنائي لا يُلجأ إليه إلا في حالات نادرة ومحددة، ترتبط بأفعال جسيمة وثابتة قانونًا، تمس بشكل مباشر المصالح العليا للوطن وأمنه ووحدته.
من حيث المضمون، يحدد القانون المعدّل جملة من الأفعال التي يمكن أن تشكل أساسًا للتجريد، من بينها المساس بأمن الدولة ووحدة ترابها، إظهار الولاء لدولة أجنبية مقرونًا بنبذ الولاء للجزائر، التعامل مع جهات معادية، أو الانخراط في جماعات إرهابية أو تخريبية أو تمويلها أو الترويج لها. هذا التعداد يسعى، بحسب واضعي النص، إلى وضع حدود واضحة للإجراء، تفاديًا لأي توسع غير منضبط في تفسيره، مع الإبقاء على سلطة القضاء كضامن أساسي للفصل في الوقائع.
من منظور الدولة، يأتي هذا التعديل في سياق دولي متغير، حيث تواجه الدول تحديات متزايدة تتعلق بالإرهاب العابر للحدود، الجرائم المنظمة، وتداخل الولاءات في عالم معولم. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى تعديل قانون الجنسية كأداة قانونية إضافية تهدف إلى تعزيز منظومة الحماية السيادية، دون أن تلغي أو تستبدل الآليات الجزائية القائمة، بل تكملها في حالات استثنائية قصوى.
في المقابل، يثير عدد من المختصين في القانون الدستوري والقانون الدولي جملة من الملاحظات التحليلية التي تركز على التطبيق العملي للنص أكثر من مبدئه. فالتحدي الحقيقي، في نظرهم، يكمن في ضبط مفاهيم ذات طبيعة مرنة بطبيعتها، مثل “المصالح العليا” أو “الولاء الأجنبي”، وضمان ألا يتم التعامل معها خارج إطار الإثبات القضائي الصارم. هذه الملاحظات لا تنطلق من تشكيك في نوايا المشرّع، بل من الحرص على ترسيخ دولة القانون ومنع أي لبس قد ينشأ مستقبلاً.
ويحضر في هذا السياق رأي شخصيات وطنية ذات خبرة طويلة في العمل الدبلوماسي والمؤسساتي، شددت على ضرورة الفصل بين الرأي السياسي أو النشاط الفكري، مهما كان حادًا، وبين الأفعال المجرّمة قانونًا التي تستوجب المساءلة. فالجنسية، في هذا التصور، تظل حقًا أصيلًا لا يُمس إلا بقرار قضائي مبني على وقائع ثابتة، وبعد استنفاد كافة الضمانات التي يكفلها الدستور.
التاريخ التشريعي لقانون الجنسية في الجزائر يُظهر مسارًا اتسم، في مجمله، بالتوازن. فمنذ أول قانون سنة 1963، مرورًا بقانون 1970 المعدّل في 2005، حرصت الدولة على الجمع بين حماية الانتماء الوطني وتفادي حالات انعدام الجنسية، انسجامًا مع المعايير الدولية. التعديل الحالي يندرج، من حيث الشكل، ضمن هذا المسار، لكنه يضع مسؤولية إضافية على عاتق المؤسسات المكلفة بالتنفيذ، لضمان عدم الانحراف عن الفلسفة العامة التي حكمت هذا الملف لعقود.
كما يكتسي وضع الجالية الجزائرية في الخارج أهمية خاصة في هذا النقاش. فوجود ملايين الجزائريين مزدوجي الجنسية أو المقيمين خارج الوطن يفرض مقاربة قانونية دقيقة تُطمئنهم بأن التعديل لا يستهدف وضعهم القانوني ولا يمس بحقوقهم الدستورية، بل يظل محصورًا في حالات قصوى تتعلق بأفعال تهدد الدولة بشكل مباشر. هذه الطمأنة، كما يؤكد مختصون، لا تتحقق بالنص فقط، بل عبر الممارسة القضائية الشفافة والتواصل المؤسساتي الواضح.
يضع تعديل قانون الجنسية الجزائرية الجميع أمام معادلة دقيقة، كيف يمكن للدولة أن تعزز أدواتها السيادية في مواجهة تهديدات حقيقية، دون أن تمس بجوهر رابطة المواطنة أو تُضعف الضمانات الدستورية؟ الإجابة تكمن في التطبيق المتزن للنص، وفي جعل القضاء هو الفيصل النهائي، وفي ترسيخ مبدأ أن الجنسية ليست أداة سياسية، بل رابطة قانونية تُدار بمنطق الدولة، لا بمنطق الظرف.
بهذا المعنى، فإن النقاش الدائر حول قانون الجنسية يعكس حيوية مؤسساتية صحية، ويؤكد أن حماية الدولة وصون حقوق المواطن مساران متكاملان، لا متعارضان، متى أُحسن ضبطهما ضمن إطار الدستور وسيادة القانون.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
النفقة وأحكام الحبس.. تعسّف إجرائي يزجّ بالآباء في السجون؟!
تُعدّ النفقة من أهم الالتزامات التي يرتبها قانون الأسرة في الجزائر، باعتبارها تجسيدًا لمبد…






