‫الرئيسية‬ الأولى تجريم الاستعمار… حين تتحول الذاكرة إلى قانون سيادي
الأولى - الحدث - الوطني - رأي - مقالات - ‫‫‫‏‫5 ساعات مضت‬

تجريم الاستعمار… حين تتحول الذاكرة إلى قانون سيادي

تجريم الاستعمار… حين تتحول الذاكرة إلى قانون سيادي
بمصادقة البرلمان الجزائري بالإجماع على قانون تجريم الاستعمار الفرنسي، تدخل الجزائر مرحلة جديدة في إدارة أحد أكثر ملفاتها حساسية وتعقيدًا، ملف الذاكرة الاستعمارية. هذه الخطوة لا يمكن اختزالها في رد فعل سياسي آني أو في رسالة دبلوماسية مشحونة، بل ينبغي قراءتها كتحول مؤسساتي واعٍ ينقل التعامل مع الماضي من فضاء الخطاب إلى مجال التشريع، ومن منطق الاستذكار الرمزي إلى منطق المسؤولية القانونية للدولة. فالقانون، في جوهره، يعيد تعريف العلاقة بين التاريخ والسيادة، ويضع حدًا لسنوات من التردد الرسمي في تسمية الوقائع بأسمائها القانونية الدقيقة.

القانون المصادق عليه لا يكتفي بإدانة عامة للاستعمار، بل يصفه صراحة بأنه “جريمة دولة”، وهو توصيف له أساس راسخ في القانون الدولي العام، خصوصًا في ما يتعلق بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليًا. فالممارسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، كما وثقتها الأبحاث التاريخية والأرشيفات الرسمية نفسها، لم تكن مجرد تجاوزات فردية أو أخطاء ظرفية، بل سياسة دولة ممنهجة استمرت أكثر من قرن، وشملت القتل الجماعي، التهجير القسري، مصادرة الأراضي، تدمير البنى الاجتماعية، ومحاولات محو الهوية الثقافية. إدراج هذه الوقائع في نص قانوني جزائري يمنحها صفة قانونية ثابتة، ويُخرجها من دائرة الجدل السياسي المتكرر.

ما يعزز مصداقية النص هو لجوؤه إلى التحديد الدقيق للجرائم، وتصنيفها ضمن الجرائم غير القابلة للتقادم، وهي نقطة محورية ذات حمولة قانونية ثقيلة. فالإعدام خارج نطاق القانون، التعذيب الممنهج، الاغتصاب، والنهب المنظم للثروات ليست توصيفات خطابية، بل جرائم معرّفة بدقة في القانون الدولي الإنساني وفي اتفاقيات دولية صادقت عليها فرنسا نفسها. بهذا المعنى، لا يبتدع القانون الجزائري مفاهيم جديدة، بل يستند إلى منظومة قانونية دولية قائمة، ويطالب بتطبيقها على حالة استعمارية ظلت لفترة طويلة مستثناة عمليًا من منطق المساءلة.

إدراج ملف التجارب النووية ضمن الجرائم الاستعمارية غير القابلة للتقادم يمنح القانون بعدًا علميًا وبيئيًا بالغ الأهمية. فالتفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية ليست مجرد حدث تاريخي منتهي، بل ضرر مستمر موثّق علميًا، ما تزال آثاره الصحية والبيئية قائمة إلى اليوم. من زاوية القانون الدولي البيئي، فإن التلوث الإشعاعي طويل الأمد يندرج ضمن الالتزامات المستمرة، أي أن مسؤولية الدولة المتسببة لا تسقط بزوال الفعل الأصلي. وعليه، فإن مطالبة الجزائر بإزالة التلوث وجبر الضرر لا تستند إلى منطق عاطفي أو سياسي، بل إلى قاعدة قانونية معترف بها دوليًا.

في ما يخص مطلب الاعتذار والتعويض، يندرج القانون ضمن تقليد دولي متنامٍ يعترف بأن العدالة التاريخية جزء لا يتجزأ من الاستقرار السياسي والأخلاقي بين الدول. فالاعتذار الرسمي لا يُفهم هنا كإذلال دبلوماسي، بل كإقرار بالمسؤولية وشرط أساسي للمصالحة الحقيقية. أما التعويض، فهو ليس مفهومًا ماليًا ضيقًا، بل يشمل جبر الضرر المادي والمعنوي والبيئي، وهو ما كرسته تجارب دولية عديدة في التعامل مع ماضٍ استعماري أو استبدادي مشابه.

الرد الفرنسي الذي وصف القانون بـ”المبادرة العدائية” يكشف، في العمق، عن أزمة مقاربة أكثر مما يعكس خلافًا قانونيًا. فالحوار الحقيقي حول التاريخ لا يمكن أن يقوم على تجاهل المسؤولية أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى. التجربة أثبتت أن إدارة الذاكرة عبر الإنكار أو التخفيف لا تنتج تهدئة مستدامة، بل تؤدي إلى إعادة انفجار الملف دوريًا بأشكال أكثر حدّة. ومن هذا المنظور، فإن القانون الجزائري لا يغلق باب الحوار، بل يعيد رسم شروطه على أساس الوضوح والتكافؤ.

داخليًا، يمنح الإجماع البرلماني حول النص شرعية سياسية قوية، ويعكس نضجًا مؤسساتيًا في التعامل مع ملف الذاكرة باعتباره شأن دولة لا ورقة للمزايدة. كما ينسجم القانون مع توجه رسمي يسعى إلى تحصين الذاكرة الوطنية من محاولات الطمس أو التزييف، في سياق إقليمي ودولي يشهد عودة قوية لصراعات السرديات التاريخية.

قانون تجريم الاستعمار ليس تصعيدًا دبلوماسيًا ولا استثمارًا ظرفيًا في الماضي، بل فعل سيادي منظم يعيد للتاريخ وزنه القانوني، ويؤكد أن بناء علاقات دولية متوازنة لا يمر عبر النسيان القسري، بل عبر الاعتراف، التسمية الدقيقة، وتحمل المسؤولية كاملة. إنه قانون يقول بوضوح إن الذاكرة، حين تُدار بعقل الدولة، تتحول من جرح مفتوح إلى أساس صلب للسيادة والكرامة الوطنية.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

النفقة وأحكام الحبس.. تعسّف إجرائي يزجّ بالآباء في السجون؟!

تُعدّ النفقة من أهم الالتزامات التي يرتبها قانون الأسرة في الجزائر، باعتبارها تجسيدًا لمبد…