تمويلات جزائرية في حملة ماكرون؟!…
ارتبط اسم إيمانويل ماكرون منذ صعوده المفاجئ إلى الساحة السياسية الفرنسية سنة 2017 بشبهات عديدة تتعلق بتمويل حملته الانتخابية الأولى، إذ أثارت طبيعة الحملة وثراؤها اللوجستي والاستشاري أسئلة حول مصادر الأموال التي غذتها.
ومع كل ما كشف عنه لاحقًا من تحقيقات قضائية فرنسية مرتبطة باستخدام شركات استشارية كبرى مثل ماكينزي، برزت في الصحافة الاستقصائية العربية والفرنسية على السواء روايات تذهب أبعد من ذلك، لتتحدث عن تدخل رجال أعمال جزائريين وأوليغارشيين نافذين في تمويل الحملة أو دعمها بطرق غير مباشرة. هذه الروايات لم تدخل قط في صلب الملفات القضائية الرسمية في باريس، لكنها بقيت جزءًا من النقاش العام، وألقت بظلالها على العلاقة المعقدة بين فرنسا والجزائر، كما أعادت إلى الذاكرة الفرنسية قضية نيكولا ساركوزي التي فجّرت الفضيحة الكبرى حول التمويل الليبي.
تقول بعض التحقيقات إن ماكرون خلال زيارته إلى الجزائر في فبراير 2017 التقى وجوهًا بارزة من “النخبة الاقتصادية” و”السياسية” الجزائرية، من بينهم عبد السلام بوشوارب وزير الصناعة حينها، وعلي حداد رئيس منتدى رجال الأعمال الجزائريين، ويسعد ربراب صاحب مجموعة سيفيتال، بالإضافة إلى بعض أفراد عائلة كونينف المعروفة بنفوذها في الأشغال العامة عبر مجموعة KouGC. وقدمت هذه اللقاءات للإعلام مادة خصبة للتكهنات، خصوصًا في ظل سياق داخلي جزائري كان يشهد تمددًا لسطوة رجال الأعمال على القرار السياسي خلال السنوات الأخيرة من حكم عبد العزيز بوتفليقة. الرواية الاستقصائية التي نشرتها منصات مثل Off-Investigation أو Le Média صيغت على شكل أسئلة حادة، هل قدمت الأوليغارشية الجزائرية دعماً مالياً سرياً للحملة؟ وهل كان ذلك جزءًا من تفاهمات غير معلنة تتيح لماكرون تعزيز شرعيته الانتخابية مقابل حفظ مصالح اقتصادية معينة مرتبطة بالسوق الفرنسية – الجزائرية؟ هذه الأسئلة انتشرت سريعًا، لكنها لم تتحول قط إلى اتهامات قضائية مثبتة.
في قلب هذه المزاعم يبرز اسم عبد السلام بوشوارب، الوزير الجزائري الذي كان جزءًا من الاستقبال الرسمي لماكرون خلال زيارته الجزائرية في مرحلة الحملة. وقد أشير إليه في بعض المقالات بوصفه قناة تواصل مهمة بين ماكرون والدوائر الاقتصادية الجزائرية، خصوصًا أنه كان معروفًا بعلاقاته مع رجال أعمال مثل علي حداد، وأنه يملك أصولاً في فرنسا مثل شقة فاخرة بباريس. غير أن كل ما يُستحضر حوله يظل في خانة الانطباعات والتحليلات، إذ لم يظهر اسمه في أي وثيقة قضائية فرنسية تتعلق بتمويل الحملات، كما أن القضايا التي يلاحق فيها بوشوارب اليوم تتعلق أساسًا بملفات فساد داخلي في الجزائر، ولا صلة لها مباشرة بماكرون أو بحملته الانتخابية.
علي حداد بدوره، من خلال مجموعته للأشغال العامة ETRHB، كان يُنظر إليه كأحد أقوى رجال الأعمال الجزائريين وأكثرهم قربًا من النظام السياسي. وقد ربطته بعض المقالات بدور محتمل في تقديم دعم مالي أو لوجستي لشبكات سياسية فرنسية مقربة من ماكرون، لكن من دون أي مستند رسمي أو دليل قضائي. وينطبق الأمر ذاته على يسعد ربراب، مالك مجموعة سيفيتال، الذي ربطت بعض المنابر بينه وبين ماكرون عبر علاقات استشارية لشخصيات فرنسية مقربة، وأحيانًا أشارت إلى أن حجم استثماراته في فرنسا قد يكون شكّل عاملًا لتقاطع مصالح. أما عائلة كونينف، صاحبة مجموعة KouGC، فقد أدرجت أيضًا في هذه الروايات كجزء من دائرة النفوذ الجزائري الذي ربما حاول بناء قنوات نحو ماكرون الطامح إلى الرئاسة. لكن في المحصلة، كل هذه الأسماء ظلت مجرد إشارات في مقالات وتحقيقات صحفية، بلا أي متابعة قضائية فرنسية تذكر.
في المقابل، انصب التحقيق القضائي الفعلي في فرنسا على ملفات أخرى، أبرزها قضية ماكينزي التي فتحت الباب أمام شبهات حول المحاباة والإنفاق غير المصرح به خلال الحملات الرئاسية لماكرون. فالمحور القضائي الرسمي كان واضحًا، فحص العلاقة بين الحملة والشركات الاستشارية، التثبت من مطابقة الحسابات، والتحقق من حدود التعاقدات الحكومية. ولم يظهر في أي من هذه المسارات اسم الجزائر أو رجال الأعمال الجزائريين أو شركاتهم. لذلك بقيت قضية التمويل الجزائري، خلافًا لقضية ساركوزي – ليبيا، حبيسة فضاء الإعلام والرأي العام من دون أساس قانوني.
لربط بين المزاعم التي أثيرت حول احتمال وجود تمويل جزائري لحملة إيمانويل ماكرون وبين قضية التمويل الليبي لنيكولا ساركوزي لم يكن مجرد صدفة، بل جاء بشكل شبه تلقائي في الوعي الفرنسي والإعلامي، لأن الفرنسيين خبروا في الماضي القريب كيف يمكن لادعاءات من هذا النوع أن تبدأ كهمس صحفي أو تسريبات غامضة ثم لا تلبث أن تتحول إلى قضايا ضخمة تهز أركان الحياة السياسية. ففي حالة ساركوزي، انطلقت الشرارة الأولى من مقالات نشرت تسريبات تتحدث عن أموال دفعها معمر القذافي لدعم حملته عام 2007. ولم تمض سنوات قليلة حتى خرجت وثائق يقال إنها صادرة عن أجهزة الأمن الليبية السابقة، إلى جانب شهادات شخصيات كانت مقربة من النظام الليبي، وكلها عززت تلك المزاعم وأجبرت القضاء الفرنسي على فتح تحقيق رسمي واسع النطاق. هذا التحقيق لم يبق مجرد ملف في الأرشيف، بل تحول إلى قضية مستمرة تلاحق ساركوزي حتى اليوم وتؤثر في صورته العامة وفي تاريخ الجمهورية الخامسة.
أما في حالة ماكرون، فالمزاعم المتعلقة بتمويل جزائري لم تتجاوز حتى الآن حدود المقالات الصحفية والتقارير الاستقصائية التي اعتمدت على استنتاجات وروابط غير مباشرة بينه وبين بعض رجال الأعمال الجزائريين. لم تظهر أي وثائق رسمية يمكن اعتمادها كدليل، ولم تتقدم أي جهة قضائية بملف مدعوم بالأدلة لتحريك تحقيق مماثل لما جرى مع ساركوزي. لذلك ظل الموضوع في خانة التكهنات والفرضيات، يستعمله الإعلام المعارض أو خصوم ماكرون السياسيون كأداة للتشكيك في استقلاليته وفي علاقاته مع الخارج، أكثر مما هو اتهام قائم على أسس قانونية أو براهين ملموسة. الفارق بين الحالتين إذن واضح، فبينما حملت قضية ساركوزي مسارًا قضائيًا ثقيلاً غيّر معادلات سياسية وألقى بظلاله على الحياة العامة في فرنسا، بقيت قضية ماكرون – الجزائر مادة للنقاش الإعلامي والجدل السياسي فقط، ما يجعلها حتى الآن ورقة ضغط أكثر منها ملفًا قضائيًا حقيقيًا.
يبقى أن هذه المزاعم، سواء وُجدت لها أدلة لاحقًا أم بقيت في خانة الشكوك، تعكس هشاشة الثقة العامة في شفافية تمويل الحملات الفرنسية، وتكشف كيف يمكن للعلاقة الحساسة بين باريس والجزائر أن تتحول إلى مادة مشتعلة في النقاش العام. فحتى دون قرائن قضائية، فإن مجرد ذكر اسم الأوليغارشية الجزائرية في سياق الانتخابات الفرنسية يكفي لخلق موجة جدل، خصوصًا في ظل التاريخ الاستعماري المشترك، وحجم المصالح الاقتصادية والسياسية المتشابكة. وإذا كانت قضية ساركوزي قد أثبتت أن التمويل الأجنبي قادر على تفجير مسارات قضائية كبرى، فإن ملف ماكرون – الجزائر يظل حتى الآن مجرد مرآة تعكس الشكوك ومخاوف التداخل بين المال والسياسة عبر الحدود، من دون أن يجد لنفسه سندًا قانونيًا في المحاكم الفرنسية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر تجدد التزامها بتقاسم الأعباء في اجتماع المنتدى العالمي للاجئين بجنيف
ترأس الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية، السيد لوناس مقرمان، الوفد الجزائري المشارك في اج…







