جسّ نبض لـ”إسقاط” الجزائر؟
تبدو التطورات الأخيرة التي عرفتها الجزائر أشبه بما يمكن وصفه بـ بداية محاولات إحماء لزعزعة الاستقرار الوطني، وذلك عبر سلسلة أحداث متلاحقة تحمل جميعها مؤشرات على وجود أطراف تتحرك بطريقة منسّقة لخلق مناخ من الاضطراب. فاندلاع حرائق في عزّ فصل الشتاء، وفي ولايات مختلفة، يثير أكثر من سؤال حول طبيعتها وتوقيتها، ويوحي بإمكانية تورّط مجموعات ذات أهداف تخريبية تريد اختبار قدرة الدولة على الاستجابة وقياس مستوى التأهب الأمني. ولم تمضِ أيام قليلة حتى انطلقت حملة دولية منظمة للطعن في صورة الجزائر بعد تصويتها لصالح المشروع العربي في مجلس الأمن، بالتوازي مع استعدادات جارية في باريس لإعلان “جمهورية” وهمية يقف وراءها فرحات مهني، ما يعطي انطباعًا بوجود خيط رابط بين كل هذه التطورات، حتى وإن حاول البعض إظهارها كأحداث منفصلة.
هذه الحلقات المتتابعة لا يمكن قراءتها بعيدًا عن سياق أوسع، يتمثل في وجود قوى دولية وإقليمية ذات امتدادات في شبكات سياسية وإيديولوجية عابرة للحدود، تُعيد اليوم ترتيب أدواتها بعد خسارتها لعدة مواقع كانت تعتمد عليها لسنوات. هذه القوى تبحث عن موطئ قدم جديد يمنحها القدرة على استعادة نفوذها، وقد وجدت في الجزائر هدفًا مغريًا نظرًا لموقعها وثقلها الإقليمي ومواقفها الدولية المستقلة التي لا تنسجم مع مشاريع الهيمنة.
ولا يمكن فصل هذه التطورات عمّا يحدث في الساحة الفلسطينية، خصوصًا في قطاع غزة، التي تحوّلت خلال العقود الماضية إلى ورقة سياسية تستثمر فيها قوى عديدة، ليس من باب الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، بل من باب توظيفها كورقة ضغط وكقناة تمويل ومساومة. فقد أدّت الصراعات الداخلية، وسوء التقدير السياسي، إلى تحويل القطاع إلى ساحة منهكة، بعدما كان يُفترض أن يكون بوابة الدولة الفلسطينية نحو العالم، كما خُطّط له في اتفاق أوسلو ومشروع المطار والميناء.
إنّ خسارة هذه القوى لورقة غزة جعلتها تبحث عن بديل يملأ الفراغ، ولا يُستبعد أنّ الجزائر، بمواقفها القوية من القضية الفلسطينية وبوزنها السياسي، قد تكون ضمن دائرة هذا البحث، خصوصًا وأنّ تقارير عديدة كشفت منذ سنوات عن استهدافها من قبل شبكات ضغط دولية تسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها. ويبرز هنا، وفق عدد من القراءات السياسية، دور بعض المؤتمرات والاجتماعات التي احتضنتها عواصم غربية، والتي كان يُطرح فيها – بشكل مباشر أو غير مباشر – سيناريوهات النفاذ إلى دول بعينها، سواء عبر اختراق النسيج السياسي المحلي أو عبر تغذية الاحتجاجات واستغلال القضايا الحساسة لدى الشعوب.
ومن بين المؤشرات المثيرة للانتباه في الداخل، بروز حراك غير مفهوم لبعض الواجهات “المدنية” التي تُعد نفسها لمعارضة قرارات لم تتخذ أصلًا، من بينها الحديث عن تشكيل لجان “لمناهضة التطبيع” في بلد لم يتجه أصلًا إلى التطبيع، لا الآن ولا في المستقبل المنظور، ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول طبيعة هذا التحرّك ومن يقف وراء توقيته وأهدافه، خاصة أن مثل هذه اللجان قد تتحول – إذا لم تُراقَب – إلى أدوات تعبئة منظمة يمكن توظيفها في لحظات حساسة.
ولا يمكن إعفاء السلطة من جزء من المسؤولية، بحكم أنّ الساحة السياسية تُركت لفترة طويلة من الزمن دون تأطير فعّال، وتمّ السماح بتضخم فراغات استغلتها أطراف ذات تنظيم محكم وخبرة في بناء شبكات موازية قادرة على التحرك بسرعة في الأزمات. فالعديد من الأحزاب التي يُفترض أن تمثل الجبهة الوطنية القادرة على حماية استقرار البلاد تعاني ضعفًا قياديًا وخطابيًا جعلها عاجزة عن لعب دورها الطبيعي في تأمين جدار سياسي واجتماعي متين.
الحملة الأخيرة ضد الجزائر، بما حملته من اتهامات وضغوط وتشويه، ليست مجرد موجة إعلامية عابرة، بل تمثل – كما يبدو – اختبارًا أوليًا لقياس موازين القوى ومدى قدرة الجزائر على الصمود أمام الهجمات المركبة التي تجمع بين الدعاية، والتحريض، واستغلال العواطف الشعبية، خصوصًا العاطفة تجاه القضية الفلسطينية. إن توظيف هذه القضية الحساسة لاستهداف الجزائر يُعدّ مؤشرًا على مرحلة جديدة من الصراع، يتداخل فيها المحلي بالإقليمي، ويختلط فيها الدفاع عن الحقوق بالمشاريع التي تتخفى خلف شعارات مقدسة.
إنّ ما يحدث اليوم يستدعي يقظة شاملة، وقراءة متأنية، وإعادة بناء متينة للفضاء السياسي الوطني، لأنّ القوى المتربصة لن تفوّت أي فرصة لتقويض استقرار الجزائر أو تحويلها إلى ورقة تفاوض في أسواق السياسة الدولية. ومع ذلك، تبقى مسؤولية المجتمع أيضًا قائمة، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى تيارات سياسية مختلفة، والذين عليهم اليوم إعادة تقييم مواقفهم، وعدم السماح بأن يكونوا أدوات – عن قصد أو عن غير قصد – في مشاريع لا علاقة لها بمصلحة الشعب الجزائري.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
ماكرون يناشد الجزائر من المكان… وفي الزمان الخطأ
ماكرون يخرج من جنوب إفريقيا ليتحدث من جديد عن “ضرورة استعادة العلاقات مع الجزائر”، لكن الس…






