‫الرئيسية‬ الأولى كيف يتحول قانون تجريم الاستعمار إلى أداة قانونية فعّالة؟
الأولى - الحدث - الوطني - رأي - مقالات - ‫‫‫‏‫5 ساعات مضت‬

كيف يتحول قانون تجريم الاستعمار إلى أداة قانونية فعّالة؟

كيف يتحول قانون تجريم الاستعمار إلى أداة قانونية فعّالة؟
يعيد قانون تجريم الاستعمار الذي صادق عليه البرلمان الجزائري فتح نقاش جوهري حول حدود التشريع المرتبط بالذاكرة التاريخية، ليس من زاوية مشروعيته الأخلاقية أو رمزيته السياسية، فهاتان مسألتان محسومتان إلى حد بعيد، بل من زاوية أكثر حساسية ودقة، الفعالية القانونية. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في توصيف الاستعمار كجريمة دولة، بل في تحويل هذا التوصيف إلى أثر قانوني ملموس، داخليًا وخارجيًا، قادر على الصمود أمام اختبار الزمن والضغوط السياسية.

القانون، بصيغته الحالية، يشكل إعلانًا سياديًا قويًا يضع حدًا للغموض في الموقف الرسمي من الماضي الاستعماري، لكنه يظل بحاجة إلى هندسة قانونية مكمّلة تجعله قابلًا للتنفيذ. التجارب المقارنة تُظهر أن قوانين الذاكرة، مهما بلغت قوتها الرمزية، تبقى محدودة الأثر إن لم تُربط بآليات إجرائية واضحة تُلزم السلطة التنفيذية بخارطة طريق محددة، تشمل التوثيق، المتابعة، والتقاضي. من دون ذلك، يتحول القانون إلى مرجعية خطابية تُستحضر عند الأزمات ثم تُهمّش مع تغيّر السياقات.

أولى ركائز الفعالية القانونية تتمثل في إخراج القانون من إطاره الإعلاني إلى فضاء التطبيق المؤسساتي. وهذا يمر حتمًا عبر إنشاء جهاز وطني دائم، مستقل نسبيًا عن التقلبات السياسية، يعنى حصريًا بملف الجرائم الاستعمارية. جهاز لا يُدار بعقلية لجان مؤقتة، بل بمنطق مؤسسة سيادية ذات صلاحيات واضحة، تضم قضاة وخبراء قانون دولي ومؤرخين وأطباء مختصين في الأضرار طويلة الأمد، خصوصًا تلك المرتبطة بالتجارب النووية. فالقانون الذي لا تُسنده مؤسسة، يظل هشًا مهما بلغت قوته النصية.

كما أن تعزيز المصداقية القانونية يقتضي ربط النص الجزائري صراحة بالمنظومة القانونية الدولية، لا الاكتفاء بإدانة داخلية موجهة للاستهلاك المحلي. الاستعمار، كما هو مثبت في الفقه الدولي الحديث، ليس حدثًا تاريخيًا محايدًا، بل منظومة أفعال غير مشروعة دوليًا، ترتب مسؤولية مستمرة على الدولة التي مارسته. الإحالة الواضحة إلى مبادئ مسؤولية الدولة، وعدم تقادم الجرائم ضد الإنسانية، واتفاقيات مناهضة التعذيب، تمنح القانون قابلية للاستخدام خارج الحدود، حتى إن لم يكن ذلك فورًا أو بشكل صدامي.

من جهة أخرى، فإن أي مطالبة بالاعتذار أو التعويض لا يمكن أن تستند إلى خطاب سياسي فقط، مهما كان مشروعًا. القانون يصبح فعالًا حين يُنتج ملفات إثبات مكتملة المعايير، تتضمن بيانات دقيقة حول الضحايا، طبيعة الأضرار، تسلسل الوقائع، والأدلة الأرشيفية والطبية والبيئية. هنا تحديدًا تتقاطع الذاكرة مع التقنية القانونية. فالعدالة الدولية لا تُبنى على السرديات، بل على الوقائع القابلة للإثبات، وهو ما يستدعي استثمارًا جديًا في الأرشيف، البحث العلمي، والتوثيق المهني.

ملف التجارب النووية يظل، في هذا السياق، المدخل القانوني الأقوى والأكثر قابلية للتفعيل. الضرر البيئي والإشعاعي لا يُصنف كحدث منتهٍ، بل كضرر مستمر، وهو ما يمنح الجزائر أرضية قانونية صلبة للمطالبة بإزالة التلوث وجبر الضرر، وفق قواعد القانون الدولي البيئي. إدماج هذا البعد بوضوح في النصوص التطبيقية، مع فرض إجراء دراسات مستقلة ومعترف بها دوليًا، يحول القانون من إدانة تاريخية إلى مطالبة راهنة ذات أبعاد إنسانية وعلمية يصعب الطعن فيها.

فعالية القانون تقتضي كذلك تنويع مسارات التحرك، وعدم حصره في خيار التقاضي المباشر أمام محكمة دولية واحدة. فهناك آليات متعددة أقل صدامية وأكثر تراكمية، لجان أممية، آليات حقوق الإنسان، ضغط قانوني عبر المنظمات الدولية، وحتى مسارات قضائية غير مباشرة أمام محاكم وطنية أجنبية في قضايا بيئية أو إنسانية. القانون الذكي هو الذي يفتح هذه الخيارات ويؤطرها، بدل أن يحصر نفسه في مسار واحد عالي الكلفة السياسية.

ويبقى عنصر أساسي لا يقل أهمية، وهو تحصين القانون من التوظيف السياسي الظرفي. كلما ارتبط تفعيل النص بحسابات دبلوماسية آنية، ضعفت قيمته القانونية. القوانين ذات الطابع التاريخي تحتاج إلى نفس طويل، واستمرارية مؤسساتية، وهدوء استراتيجي. الاعتراف والمسؤولية لا يُفرضان بالضجيج، بل بالتراكم القانوني الهادئ الذي يجعل الإنكار مكلفًا بمرور الوقت.

إن قانون تجريم الاستعمار يمثل خطوة سيادية متقدمة، لكنه ليس نهاية المسار بل بدايته. قوته الحقيقية لن تُقاس بحدة ردود الفعل، بل بقدرته على التحول إلى أداة إلزام قانوني، تستند إلى مؤسسات، وثائق، ومسارات واضحة. عندها فقط، تنتقل الذاكرة من كونها جرحًا مفتوحًا إلى رافعة قانونية تحمي السيادة وتفرض احترام التاريخ دون مساومة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

النفقة وأحكام الحبس.. تعسّف إجرائي يزجّ بالآباء في السجون؟!

تُعدّ النفقة من أهم الالتزامات التي يرتبها قانون الأسرة في الجزائر، باعتبارها تجسيدًا لمبد…