‫الرئيسية‬ الأولى من طهران إلى تلمسان… الجزائر هدف معلن في الحرب الهجينة!
الأولى - الوطني - مقالات - 14 يونيو، 2025

من طهران إلى تلمسان… الجزائر هدف معلن في الحرب الهجينة!

من طهران إلى تلمسان… الجزائر هدف معلن في الحرب الهجينة!
انطلقت الهجمات من الداخل قبل أن تسقط أول قنبلة. لم تكن الطائرات المسيّرة هي القصة الكاملة، ولا الصواريخ الموجهة وحدها سبب الانفجارات. القاسم المشترك بين ما جرى في عمق روسيا، وما حدث في العاصمة الإيرانية طهران، وما تم إحباطه داخل الجزائر، هو أن الاختراق كان داخليًا. أنظمة الدفاع المتطورة، مهما بلغت حدّتها، وقفت عاجزة أمام “حصان طروادة” الذي تم إدخاله منذ سنوات طويلة.

في أوكرانيا، مثّلت “عملية شبكة العنكبوت” نقطة تحوّل غير مسبوقة في مسار الحرب. العملية لم تنطلق من خطوط التماس، بل من داخل الأراضي الروسية ذاتها، لتُدمّر أكثر من 40 طائرة عسكرية وتُلحق خسائر فادحة قُدرت بسبعة مليارات دولار. لم تتصدّ منظومات “S-400″ و”بانتسير” الروسية لأي من الطائرات المسيّرة التي نفّذت الهجوم، في مؤشر على اختراق منهجي لا يمكن تفسيره إلا بوجود تنسيق داخلي واستخباراتي دقيق.

أما في إيران، فقد شنت قوات الاحتلال الصهيوني عملية “الأسد الصاعد”، مستهدفة منشآت نووية ومراكز حساسة داخل العاصمة طهران، رغم انتشار أنظمة الدفاع الروسية المتطورة. الغارات نُفذت دون مقاومة تُذكر، وفي توقيت متزامن مع اغتيالات لشخصيات عسكرية بارزة. هذا النوع من العمليات لا يمكن أن يُنجز من الجو وحده؛ فالتحديد الدقيق للأهداف، والنجاح في تجاوز المنظومات الدفاعية، يؤكد وجود مخبرين أو عملاء زرعوا المعلومة وساعدوا على تنفيذ المهمة.

لكن النموذج الأوضح – وإن كان مختلفًا من حيث السياق – يتمثل في “عملية البيجر” التي نفذها جهاز الموساد الصهيوني ضد حزب الله اللبناني في سبتمبر 2024. فقد خططت هذه العملية على مدى عشر سنوات، واستندت إلى اختراق تكنولوجي، تمثل في تسليم الحزب أجهزة اتصال مزوّدة بآلية تفجير داخل البطارية، عُبّر عنها على أنها أجهزة اتصال متطورة. وبعد استخدامها بشكل طبيعي لسنوات، تم تفجيرها عن بُعد في لحظة واحدة، ما أسفر عن مقتل 37 شخصًا وإصابة الآلاف، دون الحاجة إلى قصف أو تدخل عسكري مباشر. تكمن خطورة هذا النموذج في كونه يُجسّد جوهر حرب “حصان طروادة”، زراعة أدوات الاختراق من الداخل، عبر التكنولوجيا والخداع، بدلًا من المواجهة العسكرية التقليدية.

ورغم أن الجزائر ليست حزبًا، بل دولة ذات سيادة كاملة وجيش وطني محترف ومؤسسات أمنية راسخة، إلا أن التهديدات من هذا النوع لا تستثني الكيانات السيادية؛ فالاختراق لا يستهدف بالضرورة البنية العسكرية الصلبة، بل يسعى إلى ثغرات ناعمة داخل النسيج الإداري أو المدني أو التكنولوجي، يمكن من خلالها تمرير أدوات تخريب أو جمع معلومات حساسة.

وتُبيّن عمليات تفكيك شبكات التجسس في الجزائر، خصوصًا تلك المرتبطة بأجهزة أجنبية معادية، أن البلد يواجه بالفعل تحديات استخباراتية من نفس الشاكلة، حتى وإن اختلفت الدرجة أو الوسائل. وبالتالي، لا يُقصد تشبيه الجزائر بتنظيم غير حكومي، بل التنبيه إلى تقاطع في نمط التهديد، وهو استهداف السيادة من الداخل، عبر زرع الثغرات التقنية والبشرية، واستغلال الطمأنينة المؤسساتية لإحداث اختراق مفاجئ. إن ما حصل في لبنان يؤكد أن المعركة الجديدة لا تحسمها الصواريخ والطائرات فحسب، بل المعلومات، والمخترقون، والثقة المغدورة. وهو درس يُحتّم على الدول – وعلى رأسها الجزائر – أن تُعزز يقظتها ليس فقط في الجو والبر، بل في الدوائر الإدارية، والتقنيات المستوردة، وسلاسل التوريد، وكل ما قد يتحوّل في لحظة إلى أداة للاختراق من الداخل.

في الجزائر، أعلنت السلطات الأمنية في الأشهر الماضية عن تفكيك خلية تجسس مكوّنة من أربعة مغاربة وثلاثة جزائريين، اتُّهموا بالتخابر مع دولة أجنبية، دون تسمية الجهة صراحة. الخلية كانت تنشط في تلمسان، وهي منطقة استراتيجية قريبة من الحدود الغربية، وتعمل على جمع معلومات حول مؤسسات حساسة. لكنّ هذه القضية ليست الأولى. فقد سبق أن فككت مصالح الأمن الوطني شبكة تجسس تنشط في الجنوب، لصالح جهاز مخابرات تابع للكيان الصهيوني، يقودها لبناني الجنسية، وتم اتهامها بتكوين جمعية أشرار والتحريض على المساس بوحدة التراب الوطني. كما سبق للسلطات الجزائرية أن كشفت، إبان حراك 2019، عن محاولات تهريب معدات اتصال وتجسس متطورة إلى الجزائر العاصمة عبر الحدود، وُجهت لاستخدامها في عمليات استعلام لصالح جهات أجنبية خلال فترة الاحتجاجات.

كل هذه الحالات تؤكد أن الجزائر، رغم استقلالية قرارها السيادي وتحالفها الدفاعي مع موسكو، أصبحت ضمن قائمة البلدان المستهدفة عبر نمط جديد من الحروب. نمط لا يعتمد على القصف المباشر أو التهديدات التقليدية، بل على بناء شبكات نائمة، تجنيد عناصر من الداخل، ونقل المعلومة الدقيقة التي تفتح ثغرات أمنية فادحة.

وتُظهر العمليات الثلاث – في أوكرانيا، إيران والجزائر – أن الجيوش القوية، وأنظمة الدفاع المتطورة، لم تعد كافية وحدها لردع التهديدات. فحين يتحول الداخل إلى ثغرة، يصبح الخارج أكثر قدرة على ضرب العمق دون إطلاق رصاصة. لذلك بات الرهان الحقيقي اليوم على القدرة الاستخباراتية، والتحصين الاجتماعي، والمراقبة المؤسساتية لكل ما يمكن أن يتحول إلى أداة اختراق. والدليل الأبلغ على هذه المقاربة هو ما جرى في إيران قبل أعوام، عندما اغتيل العالم النووي محسن فخري زاده داخل العاصمة، في عملية نُفذت عبر تقنية عالية وعمل استخباراتي دقيق، أكد مجددًا أن الخطر الحقيقي لا يأتي من الطائرات، بل من المعلومة التي تُسرب، أو من جهاز استدعاء مفخخ في جيب معطف.

وقد أثبتت عملية “البيجر” أن امتلاك العدو لأجهزة اتصال داخل بنية المقاومة أخطر من امتلاكه صواريخ خارقة، لأن المعركة هنا تُدار من داخل المؤسسات، ويُنفذ التفجير بكبسة زر، من مكان لا يُرى.

لكن التأكيد على أن هذه الحرب تُخاض اليوم في الجغرافيا الجزائرية، لا يعني بالضرورة وجود عمليات عسكرية مباشرة أو خلايا نشطة بالمعنى التقليدي، بل يُستشف من مؤشرات موضوعية تتكرر في التقارير الرسمية والأمنية. فتفكيك شبكات تجسس خلال السنوات الأخيرة، والتعامل مع محاولات اختراق رقمي أو تهريب معدات حساسة، يعكس نمطًا من التحديات غير التقليدية التي قد تكون جزءًا من صراع أوسع على المعلومات والنفوذ. وتزامن هذه الوقائع مع سياق إقليمي ودولي متوتر، يجعل من الجزائر – بوصفها دولة ذات قرار سيادي مستقل وتحالفات استراتيجية غير منضبطة لإملاءات غربية – طرفًا معنيًا بمواجهة أوجه جديدة من التهديد، لا تُقاس بالصواريخ بل بالمعلومة، ولا تُخاض بالجنود بل عبر دوائر التأثير الناعم.

وإذا كانت الجزائر قد نجحت في التصدي لهذه المحاولات حتى الآن، فإن الدرس الأهم هو أن الاستباق لا يقل أهمية عن الرد. فالحرب الآن ليست فقط في السماء… بل في تفاصيل الأجهزة، والوثائق، والمكالمات، والأشخاص. إنه زمن المعلومة، لا القنبلة. وزمن الاختراق، لا الاجتياح. وزمن العميل، لا الجندي.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

العدد 86 من يوميـــــة “المؤشر” 25|11|2025