‫الرئيسية‬ الأولى أخرجوا إعلامكم!
الأولى - الافتتاحية - ‫‫‫‏‫أسبوعين مضت‬

أخرجوا إعلامكم!

أخرجوا إعلامكم!
أكثر من عشرين قناة تلفزيونية – كما أعلن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في آخر لقاء له مع الصحافة الوطنية – يُفترض أن تكون كافية، بل وأكثر من كافية، لتشكّل جبهة سمعية بصرية متكاملة، قادرة على مواجهة التحديات وفرض الرؤية الجزائرية داخليًا وخارجيًا. لكن، أين هي هذه القنوات؟ ماذا فعلت حين تكالبت علينا الجرائد الأجنبية والقنوات الإقليمية والدولية لتشويه صورة الجزائر، وكان آخرها قناة “العربية” المملوكة لرجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال؟ ماذا قدّمت عندما تحوّلت البلاد إلى هدف مفتوح لحملات إعلامية متواصلة؟

الحقيقة صادمة، لا شيء تقريبًا. لقد التزمت أغلبها الصمت، فيما انشغل بعضها بنشر خطاب متطرف، واكتفى البعض الآخر ببرامج ترفيهية رتيبة ومسلسلات مستوردة، بينما تُدار معارك الوعي في الخارج بأدوات الآخرين.

الإعلام، في بلد بحجم الجزائر، لا يمكن أن يُعامل كزينة للواجهة أو كإضافة ثانوية في المشهد السياسي. الإعلام قوة ناعمة، أداة سيادة، وجبهة أولى في الدفاع عن المصالح الوطنية. لا يكفي أن تملك جيشًا قويًا، أو دبلوماسية نشطة، أو موارد اقتصادية معتبرة، إذا لم تكن قادرًا على إدارة صورتك في الخارج والدفاع عن مواقفك أمام الرأي العام الدولي. المعركة اليوم لم تعد معركة حدود أو موارد فحسب، بل صارت معركة سرديات وصور وأخبار. ومن يخسر هذه المعركة، يخسر كل شيء.

ومع ذلك، ما زلنا نرى كيف يُزجّ باسم الجزائر إلى وكالة الأنباء الرسمية كلما اشتدت الحملات، لتصدر بيانًا أو تعليقًا يعبّر عن استياء الدولة من مقال أو برنامج تلفزيوني. ولا أحد ينكر الدور المهم الذي تلعبه الوكالة ونثمّنه عاليًا في الدفاع عن الوطن وثوابته، لكن علينا أن نعترف بأن هذا ليس دورها الطبيعي. وكالة الأنباء هي لسان حال الدولة، مؤسسة يُفترض أن تُنتج الأخبار وتبادر وتفرض خطاب الجزائر، لا أن تتحوّل إلى جهاز ردود أفعال غاضبة. فالدولة لا تردّ على مقالات صحفية ولا على برامج قنوات خاصة، وإنما تُسقط الحملات الإعلامية بالسبق، بالتحليل المتماسك، وبالحضور القوي في المشهد الدولي.

المعضلة الحقيقية ليست في الوكالة، بل في القنوات التي وُجدت ولم تقم بدورها. لقد حان وقت تأسيس درع إعلامي وطني منسجم للدفاع عن الجزائر. لدينا أكثر من عشرين قناة ومئات الصحف والمجلات – كما قال الرئيس – لكن أين هي من الساحة؟ أين حضورها؟ أين خطابها؟ هل يُعقل أن يُفتح المجال السمعي البصري بهذا الشكل، ثم تكون النتيجة قنوات عاجزة عن أداء واجبها الوطني؟ فما جدوى الدعم العمومي إذن؟ ولماذا تُصرف الأموال العامة على مؤسسات لا تملك الجرأة ولا الكفاءة ولا حتى الإرادة لتكون في مستوى التحدي؟ الإعلام ليس وسيلة للربح السهل أو لتمرير الرداءة، الإعلام ساحة صراع، ومن لا يدرك ذلك فليبحث له عن مهنة أخرى.

أما وزارة الاتصال، فهي الحلقة الأضعف في هذه السلسلة. وزارة يُفترض أن تكون جهازًا استراتيجيًا، لكنها تحوّلت إلى هيكل إداري بلا روح: لا رؤية، لا خطة، لا إصلاح حقيقي. تكتفي بإصدار بيانات أو بفرض قيود بيروقراطية على الصحافة، بينما المعركة الحقيقية تدور في الخارج، حيث تُشوّه صورة الجزائر يوميًا. وزارة بلا مبادرة، قنوات بلا فعالية، ووكالة أنباء مثقلة بأدوار ليست لها – ومشكورة على تحمّلها – في غياب وسكوت وتواطؤ الآخرين. فكيف نريد أن تكون لنا قوة إعلامية؟

إن الوضع لم يعد يحتمل الترقيع. الإعلام الوطني بحاجة إلى ثورة داخلية، لا إلى مساحيق تجميل. يجب إعادة النظر جذريًا في وظيفة القنوات الجزائرية: إما أن تكون قنوات وطنية قادرة على المواجهة، أو لا تكون. إما أن تنطق باسم الجزائر، أو تُسحب منها رخصة البث. لا مجال للتردد ولا للمجاملة. الجزائر ليست في لحظة رخاء تسمح بتبذير المال العام على قنوات بلا صوت.

بعث دور وسائل الإعلام المتناثرة هنا وهناك سيمكن وكالة الأنباء الجزائرية من أن تعود إلى مهمتها الأصلية، إنتاج الأخبار وصياغة الرواية الوطنية بمهارة، لا الاكتفاء بالرد على حملات الآخرين. والوزارة يجب أن تتحوّل إلى مركز تفكير استراتيجي، خاصة وأن الوزير الحالي الأستاذ بوعمامة يملك من الخبرة الأكاديمية ما يؤهله لجعلها تقوم بهذا الدور، بدل أن تبقى مجرد إدارة خاملة. أما القنوات، فيجب أن تُفتح على المنافسة الجادة، والتكوين، والمهنية، حتى تتجاوز مرحلة التسلية الرخيصة وتدخل معركة صناعة الرأي العام.

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الجزائر بحاجة إلى إعلام هجومي، مبادر، قادر على مخاطبة العالم بلغاته وأدواته. لا يكفي أن نردّ، يجب أن نسبق. لا يكفي أن نستنكر، يجب أن نُقنع. لا يكفي أن نغضب، يجب أن نُبادر. هذا هو التحدي، وهذه هي المعركة.

الرسالة الأخيرة واضحة، أخرجوا إعلامكم، لا لإحصاء عدد القنوات، بل لصناعة قوة وطنية حقيقية. أخرجوا إعلامكم أو لا جدوى من وجوده.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …