الأرشيف يفضح الحرب القذرة.. هذا ما فعله جواسيس باريس بالثوار!
نشرت مجلة L’Express الفرنسية تحقيقًا استقصائيًا غير مسبوق بعنوان “اختراق، اغتيالات مستهدفة… التجسس الفرنسي خلال حرب الجزائر”، كاشفة عن وثائق أرشيفية وسلسلة شهادات ومراسلات رسمية تسلط الضوء على الوجه الخفي للاستعمار الفرنسي، متمثلًا في آلة التجسس والاغتيال التي أدارها جهاز المخابرات الفرنسية خلال الثورة الجزائرية. وقد أظهر التحقيق أن المعارك التي كانت تُخاض في الجبال والقرى الجزائرية لم تكن وحدها من ترسم مشهد الحرب، بل كانت هناك حرب أخرى، أكثر قسوة، تدور في الظل، بلا صوت ولا دخان، يقودها الجواسيس، وتُدار من غرف مغلقة في باريس.
التحقيق الذي أعدّه ثلاثة من صحفيي المجلة، مدعومًا بصور ووثائق لم تُنشر من قبل، يكشف عن سلسلة من العمليات السرية التي نفذتها مديرية التوثيق الخارجي والمخابرات المضادة الفرنسية (SDECE) وقسم “العمل الخاص” المعروف بتنفيذه لعمليات التصفية الجسدية خارج الأطر القانونية. إحدى الوثائق الرسمية التي نُشرت تضمنت أوامر مكتوبة بتصفية أحد ممثلي جبهة التحرير الوطني في تونس، مع التشديد على تنفيذ العملية “بصمت تام، ودون ضجيج دبلوماسي”، فيما تُظهر صورة أخرى ملفًا يحمل عنوان “Opérations Homo”، وهي تسمية استخدمتها المخابرات الفرنسية لتغطية عمليات الاغتيال الموجهة ضد قادة الثورة. هذه الأوامر لم تكن تصرفًا فرديًا، بل تعليمات رسمية صدرت من قيادة عليا في الدولة الفرنسية، كما أكده لاحقًا الجنرال بول أوساريس في مذكراته الشهيرة Services Spéciaux: Algérie 1955–1957، حيث اعترف بأن التصفية كانت جزءًا من استراتيجية رسمية “لحماية الجمهورية من تهديد استقلال الجزائر”.
الوثائق التي استند إليها التحقيق تكشف عن أسماء شخصيات سياسية وميدانية جزائرية تم استهدافها في عمليات اغتيال أو اختطاف، بعضها وقعت في تونس والمغرب، وأخرى في قلب العاصمة الفرنسية باريس. من بين هذه العمليات ما تم التخطيط له ضد محمد خيضر، الذي نجا من محاولة اغتيال سنة 1960 في سويسرا، وفق ما ورد أيضًا في كتاب المؤرخ البريطاني مارتن إيفانز Algeria: France’s Undeclared War، والذي وصف حرب فرنسا في الجزائر بأنها “حرب غير معلنة، تُدار في الظلال، عبر أدوات تتجاوز الجيش إلى المخابرات والاغتيال والتضليل الإعلامي”.
التحقيق لم يكتف بعرض عمليات القتل، بل كشف عن استراتيجية اختراق داخلي عُرفت لاحقًا باسم “حملة البليويت” (Bleuite)، التي استهدفت زرع الشك والانقسام داخل جيش التحرير الوطني، عبر بث إشاعات واتهامات كاذبة عن وجود خونة في الصفوف، ما تسبب في عمليات تطهير دموية داخلية قُتل فيها المئات من المجاهدين، حسبما وثّقت صحيفة Le Monde في تقرير لها، واستندت فيه إلى شهادات لمجاهدين نجوا من تلك الحملة الاستخباراتية، وأخرى لمسؤولين فرنسيين سابقين أقروا بالدور المباشر لأجهزة الأمن الفرنسية في تنفيذها.
وفي السياق نفسه، تؤكد وثائق أخرى أن هذه العمليات كانت تُدار من قبل وحدات خاصة تلقت أوامرها من وزارة الدفاع الفرنسية، مع غطاء قانوني وهمي يبرر الاعتقال والاختفاء، وفق ما ورد في تقرير أعدته منظمة العفو الدولية عام 2021 تحت عنوان “فرنسا: إفلات من العقاب عن جرائم الحقبة الاستعمارية”، حيث دعت المنظمة إلى فتح الأرشيف بشكل كامل، وإتاحة المجال للتحقيق في جرائم القتل والاختفاء والتعذيب المنهجي خلال حرب الجزائر.
تشير مؤشرات متزايدة من الأوساط الأكاديمية والإعلامية الجزائرية إلى أن المعطيات الجديدة التي كشف عنها تحقيق L’Express مرشّحة لإثارة تفاعل واسع، بالنظر إلى ما تحمله من دلالات قانونية وتاريخية خطيرة. ويرى عدد من المتابعين أن هذا الكشف يعيد إلى الواجهة مطالبًا طالما رُفعت بشأن المساءلة التاريخية، وعلى رأسها تلك التي عبّر عنها مؤرخون وحقوقيون جزائريون، من بينهم الدكتور محمد لحسن زغيدي، الذي سبق أن دعا إلى عقد ندوة وطنية موسعة تحت عنوان “ملف التجسس الفرنسي: الذاكرة والعدالة”، تُعنى بجمع الشهادات الحية وتوثيقها، ومقارنتها بما يتوفر من وثائق أرشيفية فرنسية، تمهيدًا لتحركات قد تأخذ شكل مسارات قانونية أمام مؤسسات قضائية أو حقوقية دولية.
كما يُتوقع أن يُعاد طرح مسألة فتح كامل الأرشيف الفرنسي المتعلق بالحقبة الاستعمارية، خاصة بعد أن كشفت مجلة L’Express عن وجود وثائق تمت أرشفتها بدرجة “سري جدًا” ولا تزال غير متاحة حتى للباحثين الفرنسيين. هذا التعتيم، الذي وصفه المؤرخ بينجامان ستورا في تقريره الرئاسي عام 2021 بـ”الرقابة الرمزية على الذاكرة”، يُظهر إلى أي مدى لا تزال فرنسا ترفض الاعتراف الشامل بما اقترفته من جرائم في الجزائر، مكتفية بخطاب مزدوج يجمع بين الإقرار الأخلاقي والتملّص القانوني.
من ناحية أخرى، تتلاقى هذه الوثائق مع مضمون كتاب الصحفي هنري أليغ La Question، الذي نشر سنة 1958 وكشف فيه بأسلوب صادم عن تعذيبه في أحد مراكز الاستنطاق الفرنسي في الجزائر. الكتاب، الذي تم حظره فور صدوره في فرنسا، أعطى مبكرًا صورة حقيقية عن الوجه الخفي للحرب، وهو ما تؤكده اليوم الوثائق الرسمية المسربة، وتضعه في سياق ممنهج وليس استثناءً فرديًا.
كل هذه التفاصيل تضع فرنسا أمام امتحان تاريخي جديد، لا يمكن تجاوزه بالمجاملات السياسية أو الالتفاف على الذاكرة. فالجرائم التي كشفتها الوثائق لم تكن ارتجالية، بل جزء من سياسة مؤسساتية اعتمدت أدوات الحرب القذرة ضد شعب كان يطالب بحقه في الاستقلال. وقد يكون هذا التحقيق، بما كشفه من دلائل وأسماء وتواريخ، نقطة تحوّل في النقاش العام، ليس فقط في الجزائر، بل حتى داخل فرنسا ذاتها، حيث بدأ عدد من المثقفين الفرنسيين يطالبون علنًا بمحاسبة الدولة عن جرائمها الاستعمارية، كما ورد في مقالات نشرت مؤخرًا في Libération وMediapart.
إن ما خرج من أرشيف المخابرات الفرنسية عبر هذا التحقيق لا يُعد مجرد وثائق، بل هو صوتٌ للضحايا الذين لم يملكوا فرصة الشهادة، ومرآة لماضٍ لم يُدفن بعد، بل يعيش بيننا، في المطالب المؤجلة، والعدالة الغائبة، والأسئلة التي لا تزال معلقة على أبواب التاريخ.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد
أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …







