‫الرئيسية‬ الأولى الإصلاحات الزراعية الجزائرية تُنهي عهد الهيمنة على سوق الاستيراد
الأولى - اقتصاد - الحدث - الوطني - مال واعمال - ‫‫‫‏‫ساعة واحدة مضت‬

الإصلاحات الزراعية الجزائرية تُنهي عهد الهيمنة على سوق الاستيراد

الإصلاحات الزراعية الجزائرية تُنهي عهد الهيمنة على سوق الاستيراد
تشهد السوق الزراعية في الضفة الشمالية للبحر المتوسط تحوّلًا عميقًا غير مسبوق، بعدما بدأت الإصلاحات الاستراتيجية التي تبنّتها الجزائر في القطاع الفلاحي تُحدث ارتدادات مباشرة لدى المورّدين الأوروبيين، خصوصًا أولئك الذين اعتادوا لعقود على الاستفادة من اعتماد الجزائر شبه الكامل على الاستيراد. ومع دخول هذه الإصلاحات حيّز التنفيذ الفعلي، أصبح واضحًا أن الجزائر تغيّر قواعد الاشتباك الاقتصادي، وأن الخارطة التقليدية للتجارة الزراعية في المنطقة بصدد إعادة التشكّل، وأن فرنسا — أكبر المستفيدين سابقًا من السوق الجزائرية — أصبحت أول المتأثرين بهذا التحوّل.

فعلى مدى سنوات طويلة، شكّلت الجزائر واحدة من أهم وجهات تصدير البذور والمنتجات الزراعية الفرنسية. لم يكن الأمر مجرد نشاط تجاري، بل كان منظومة قائمة بذاتها، سوق واسعة، طلب مرتفع، ونظام استيراد سمح لأطراف خارجية بالتحكم في جانب حساس من سلسلة الإنتاج الزراعي الجزائرية. ولكن مع إطلاق الجزائر لإستراتيجية وطنية شاملة تحت قيادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ترتكز على السيادة الغذائية وتقليص التبعية للخارج، بات واضحًا أن تلك المنظومة تقترب من نهايتها، وأن من كانوا يستفيدون من هشاشة الوضع السابق بدأوا يشعرون بثقل هذه الإصلاحات.

تراجع صادرات البذور الفرنسية نحو الجزائر لم يكن مجرد حركة ظرفية مرتبطة بتذبذب موسمي، بل جاء ليؤكد نهاية مرحلة تاريخية كانت فيها السوق الجزائرية تمنح للمورّد الأوروبي امتيازًا شبه مطلق. اليوم، يدرك الفاعلون الزراعيون الفرنسيون أن ما يفقدونه ليس سوقًا فحسب، بل نموذجًا اقتصاديًا كاملاً كان يسمح لهم بتصريف فائض الإنتاج بسهولة فائقة نحو جنوب المتوسط. ولعلّ ما كشفه المحلل الفرنسي نيكولا بافريز في صحيفة لو فيغارو يوضح حجم الصدمة؛ إذ قال إن الزراعة الفرنسية انتقلت من «التراجع البطيء» إلى «مرحلة الانهيار»، مشيرًا إلى أن انكماش السوق الجزائرية يشكّل ضربة موجعة ضمن سلسلة خسائر طالت صادرات الحبوب ومسحوق الحليب والعجول، وصولًا إلى البذور.

أما الأرقام، فهي تعكس بجلاء هذا التحوّل، فقد تراجع الفائض التجاري الزراعي الفرنسي إلى 350 مليون يورو خلال الأشهر الثمانية الأولى فقط، بعد أن بلغ 4.5 مليارات يورو العام 2024. هذه الهوة الكبيرة لا تُفسَّر دون احتساب أثر الإصلاحات الجزائرية، التي قلّصت تدريجيًا الطلب على منتجات كانت تُستورد بشكل تلقائي، وفرضت لأول مرة منطقًا جديدًا يقوم على تقييم الحاجة والإنتاج المحلي أولًا ومكافحة التبذير في العملة الصعبة.

على الأرض، تبدو ملامح التحول جلية. فمنذ 1995، حققت الجزائر اكتفاءً شبه تام من بذور الحبوب بفضل العمل المؤسّسي للديوان المهني للحبوب، لكن هذا الإنجاز لم يتحول إلى قاعدة إنتاجية مستقرة إلا بعد الدفعة القوية التي منحها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون للقطاع الفلاحي. فقد أعاد الرئيس وضع ملف البذور ضمن أولويات الأمن الغذائي الوطني، ووجّه نحو إعادة تأهيل محطات الغربلة وتحديث تجهيزاتها، واعتماد التكنولوجيا الحيوية، وتشديد الرقابة على الجودة، وإطلاق برامج دعم موجّهة للمؤسسات المنتجة. هذه المقاربة السياسية الجديدة مكّنت من تثبيت المكاسب القديمة وتحويلها إلى منظومة إنتاج وطنية قادرة على منافسة الواردات وتقليص التبعية للخارج بشكل ملموس.

وبفضل هذا التوجّه الجديد، انتقلت الجزائر من مجرد الحفاظ على إنتاج تقليدي للبذور إلى بناء منظومة متكاملة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والحوكمة الاقتصادية، الأمر الذي سمح برفع القدرات الإنتاجية، وتطوير أصناف جديدة، وضمان استقرار الإمدادات الوطنية. وفي قطاع البطاطا، الذي يُعدّ أحد أكثر الحلقات حساسية في سلسلة الإنتاج، عرفت البلاد نقلة نوعية بفضل اعتماد تقنيات الإكثار الدقيق (micro-propagation)، مع توسع المخابر والبيوت البلاستيكية ودخول مؤسسات محلية مثل «أغرو ديف» و«Vitroplant» و«Sodea» بقوة في هذا المجال. هذه الديناميكية أدت إلى تقليص واردات شتلات البطاطا من 140 ألف طن إلى نحو 50 ألف طن فقط، وتخفيض فاتورة الاستيراد بعشرات الملايين من الدولارات.

هذا المشهد الجديد لم يمرّ مرور الكرام في أوروبا، خصوصًا فرنسا. فقد بدأ المصدّرون هناك يدركون أن “الجزائر الجديدة” لم تعد سوقًا يسهل اختراقها، وأن نمط الاستفادة من الفجوات البنيوية في الاقتصاد الجزائري لم يعد قائمًا، وأن مرحلة الاستيراد المفتوح — التي كانت تمنح الموردين الأوروبيين امتيازات واضحة — تقترب من نهايتها.

وفي ظل هذا الواقع، برزت أصوات فرنسية تدعو إلى إعادة بناء العلاقات الاقتصادية مع الجزائر وفق نموذج جديد. ميشال بيساك، رئيس الغرفة الجزائرية الفرنسية للتجارة والصناعة، دعا صراحة إلى إقامة شراكات “متوازنة” بعد أن أصبحت السياسة الجزائرية الجديدة تُعيد ضبط موازين القوى لصالح الإنتاج المحلي، وتفرض قواعد تعامل تقوم على الندية واحترام الخيارات السيادية.

ما يحدث اليوم هو نتيجة مباشرة للتوجه الوطني الذي قاده رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والذي وضع لأول مرة منذ عقود قضية السيادة الغذائية في صدارة الأولويات. فالإصلاحات لم تكن شكلية أو تقنية فحسب، بل كانت إعادة رسم جذرية لمنظومة الإنتاج الزراعي، ومع ظهور نتائجها على الأرض بدأت بعض القوى الاقتصادية الخارجية — التي استفادت طويلًا من هشاشة المنظومة الوطنية — أول المتضررين من هذا التحول.

إن ارتدادات الإصلاحات الجزائرية عبر المتوسط تؤكد أن البلاد تسير نحو تمكين اقتصادي حقيقي، وأن مرحلة الاستيراد المفرط الذي كان يشكل ثغرة تستغلها أطراف خارجية آخذة في الانحسار. وما يحدث في سوق البذور اليوم قد يكون مقدمة لتحولات أوسع في قطاعات أخرى، حيث تتقدم الجزائر بثبات نحو بناء اقتصاد زراعي منتج، مستقل، وأكثر قدرة على التحكم في مداخله الإستراتيجية.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

فتح منصة الاطلاع على نتائج طعون «عدل 3» أمام المكتتبين

فتحت الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره عدل منصة الإطلاع على نتائج الطعون الخاصة بالمستف…