الاعتداء على تمثال عين الفوارة.. جريمة في حق الجزائر
تابعت بحزن عميق وأسف بالغ حادثة الاعتداء على تمثال “عين الفوارة” للمرة الثانية، وهو ما يعكس بوضوح أن الجزائر اليوم تُواجه جيلاً عنيفًا، يحمل أفكارًا متطرفة تشكل خطرًا على مستقبل البلاد. هذا الأمر يدعو إلى وقفة تأمل جادة، وإلى دراسة معمقة من قبل جميع الجهات، بهدف إيجاد حلول حقيقية تمنع تكرار هذه الكوارث السلوكية.
العدالة مشكورة، تحركت بسرعة، وضربت بيد من حديد المعتدي الذي أُطلق عليه اسم “بومارطو”، في رسالة واضحة وحازمة إلى كل من تُسوّل له نفسه الاعتداء على الملكية العامة، التي تمثل جزءًا من الهوية الرمزية والثقافية المشتركة، وتحميها الدولة بقوة القانون.
أنا أعرف “عين الفوارة”، وقد زرتها مرارًا كلما زرت مدينة سطيف، وسمعت كثيرًا من أصدقائي هناك يقولون لي: “اشرب من مائها، وستعود لزيارتها حتمًا”، وكأنها تربط الزائر بها روحانيًا. والمعتقد السائد أن من يشرب من مائها يعود تلقائيًا إلى المدينة، وكأنها تعطيه وعدًا بزيارة أخرى. لذلك، لطالما كانت “عين الفوارة” عنوانًا للضيافة والارتباط الوجداني بمدينة سطيف.
لذا، من الطبيعي أن يشعر أغلب سكان المدينة بالخجل والحزن في كل مرة يظهر فيها “بومارطو” جديد، يعتدي على هذا المعلم الجمالي الرمزي، ويُلطّخ صورة مدينتهم الجميلة. لكن ما آلمَني أكثر من الاعتداء نفسه هو التبريرات “الثقافية” التي طُرحت بعد الحادثة. بعض من يُصنفون أنفسهم “مثقفين” ذهبوا إلى حد اقتراح نقل التمثال إلى المتحف بدعوى أنه “يستفز” مشاعر البعض، ممن يرون في الجسد الأنثوي فتنة تثير “غرائزهم الحيوانية”، على حد تعبيرهم.
وهنا، أطرح سؤالًا واضحًا: هل أصبحنا مجبرين، كمجتمع، أن نُطوّع ذوقنا، وفنوننا، وتاريخنا، وحتى وجود نسائنا، وفق رغبات مرضى نفسيين يرون في المرأة عورة متحركة؟ هل علينا أن نُقصي النساء من الفضاء العام إرضاءً لـ”بومارطو” وأشباهه؟ هل سنمنع المرأة من السير في الشارع، ونمنع الفن من التواجد، ونُفرغ ساحاتنا وشواطئنا وشوارعنا ومؤسساتنا من الحياة، فقط ليرتاح هذا المخلوق المعقّد من وجود الجمال والحرية؟
إذا كنا سنستجيب لهؤلاء، فعلينا أن نعيد تشكيل كل فضائنا العام، بدءًا من القرى والمدن، مرورًا بالوزارات، وانتهاءً برئاسة الجمهورية، ومقرات الدوائر، والجامعات، وحتى الملاعب. علينا أن نحذو حذو “طالبان”، التي قررت أن وجه المرأة وصوتها “عورة”، بعد أن كانت تعتبر فقط بعض أجزاء جسدها كذلك! وهم يتناسون أن الله نفسه هو من خلق هذا الجسد، لكن ذلك لا يهم عند هؤلاء المرضى، فالمهم لديهم أن تُدفن المرأة حيّة، وأن يُمحى وجودها، مثلما تفعل طالبان بحماسة.
هكذا يريد “بومارطو” أن تكون الجزائر، بلدًا خاليًا من النساء، من الفن، من الفضاء العام، بلدًا مُحبطًا مقفلاً، لا يُشبه الحياة، بل يُشبه مقبرة جماعية. والمصيبة أن بعض “المثقفين” – الذين كنت أظنهم آخر من يمكن أن يتحالف مع الجهل – يُقدّمون اقتراحات تُرضي بومارطو وتُغضب المجتمع. هؤلاء لم يسألوا أنفسهم، من الذي خرج فرحًا باحتفالية تاريخية حين أُعيد ترميم تمثال “عين الفوارة” بعد تخريبه في فترة الإرهاب؟ من الذي زغرد، وصفّق، واحتفل؟ أليسوا هم سكان سطيف الذين شعروا أن مدينتهم استعادت روحها بعد سنوات من القهر؟
كيف يمكن لمثقف أن يطالب بنقل التمثال إلى المتحف إرضاءً لفئة مريضة، بينما الآلاف من سكان سطيف يحتفلون كلما عاد التمثال إلى مكانه؟ كيف يمكن أن تُبرر إهانة الرمزية المدنية تحت شعار “احترام مشاعر بومارطو”؟ هذا انحدار خطير من بعض من يُفترض أنهم صفوة المجتمع، لكنه يُثبت أن “نصف المثقف” أكثر خطورة من الجاهل الصريح.
عندما يبدأ من يُفترض أنهم نخبة المجتمع في تقديم التنازلات أمام أمثال “بومارطو”، فإنهم بذلك لا يعبدون فقط طريق الأفغنة، بل يحفرون قبورنا الثقافية والاجتماعية بأيديهم. ذلك تمامًا ما يتمناه الغرب الاستعماري، الذي يعمل ليل نهار على تفكيك البنية الاجتماعية للدول العربية، عبر زرع التطرّف، وتمكين الرداءة، لتُصبح الحياة جحيمًا، ويُضطر الشباب والنخب للهروب.
الغرب لا يُخفي أهدافه، الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى 90 مليون مهاجر قبل عام 2090، وألمانيا وحدها تريد استقدام 15 مليون شخص بحلول 2030 لتعويض أزمة الشيخوخة. فهل هناك طريقة أفضل لتحقيق هذا الهدف من تحويل الجزائر إلى جحيم فكري واجتماعي، يُسيطر فيه “بومارطو” على الحياة العامة، فيضطر العقلاء إلى الهجرة؟
من هنا نفهم لماذا تُصلح السعودية نفسها اليوم. كانت تُرسل 30 ألف طالب سنويًا للدراسة في الخارج، لكنها اكتشفت أن الإصلاح لا يكون بالخارج فقط، بل بالداخل أيضًا. فقررت مواجهة التطرّف، وتحسين نمط الحياة، والانفتاح الثقافي والرياضي. الشباب السعودي اليوم يرتدي “الشورت” في الملاعب، بينما بعض الجهلة عندنا لا يزالون يُحرّمونه! السعودية نفسها، التي كان يُروَّج منها الفكر المتشدد، قامت بإلغاء نظام “المحرم”، في حين أن البعض عندنا ممن درس في الخارج بمنح من أموال الدولة، عاد ليُحاضرنا في فقه ابن تيمية وابن باز!
الحفاظ على التوازن الاجتماعي في الجزائر ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية. الدولة الجزائرية قامت بواجبها عندما تعاملت بحزم مع المعتدي على تمثال “عين الفوارة”، وهذا هو الاتجاه الصحيح. فالتساهل مع هذه الظواهر ليس فقط خطرًا داخليًا، بل مدخل من مداخل المؤامرة الكبرى لإفراغ الجزائر من نُخبها ومفكريها ومبدعيها.
الجزائر لا يجب أن تتحول إلى مرتع لـ”بومارطو” وأشباهه، ولا ينبغي أن يُسمح للمثقفين عديمي الضمير أن يُسايروا هذا الانحدار. يجب أن نقولها بصوت مرتفع: لا للتنازل عن الفضاء العام، لا للتخلي عن الجمال، لا لمقايضة الحرية برضا المتطرفين. من يتنازل اليوم أمام المطرقة، سيتنازل غدًا عن رأسه.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…