التعبئة العامة تحتاج إلى نقل عمومي آمن…
بعد الأحداث الأليمة، يكون دورها محوريًا في حياة الشعوب والأمم، هكذا علمنا التاريخ. وكل من يحترم السيرورة التاريخية يعتبر حادثة سقوط حافلة في وادي الحراش من الوقائع التي سيكون لها الأثر الأكبر في التفكير الجاد من أجل إصلاح قطاع النقل البري للمسافرين. وتمامًا كحادثة وفاة مناصري مولودية الجزائر في ملعب 5 جويلية، الناجمة عن تهاون خطير ولا مبالاة أصبحت السمة السائدة في تسيير الشأن العام. وأتمنى أن تجري المحاكمة بطريقة “الريفيري” حتى لا تدخل في غياهب التاريخ وتطول لأكثر من خمس سنوات، فتخرج عن إطار أهدافها الرادعة لتصحيح الحوكمة والتعيينات وردع كل من لا يملك المؤهلات ويجلس في كرسي المسؤولية وهو غير أهل لها.
الدروس التي يجب استخلاصها من حادثة سقوط الحافلة في وادي الحراش عديدة ومتنوعة، وأهمها أن الجزائر لا تملك أسطولًا صالحًا لنقل الأشخاص، رغم أنها قررت حالة التعبئة العامة التي تتطلب نقل الآلاف من المواطنين عبر الوطن لمواجهة الأخطار. وعليها أن تراجع هذا القطاع ليكون في مستوى مواجهة التحديات الأمنية منها والحضارية أيضًا. البداية تكون بإعلان قطاع النقل البري قطاعًا استراتيجيًا بامتياز، وإنهاء حالة التشرذم والتفتت التي يعرفها حاليًا والتي لا تسمح للدولة بتطبيق سياسات موحدة سواء استعجالية، أو متوسطة وطويلة المدى، ولا حتى في حالة التعبئة العامة.
وشخصيًا، لا أفهم كيف تهتم الدولة – مشكورة – بقطاع النقل الجوي ولا تولي أي اهتمام بقطاع النقل البري للمسافرين، بل تكاد تمقته. في حين يرى المسؤول بأم عينه، في كل تنقلاته، الحالة التي وصل إليها هذا القطاع من تدهور وفوضى لا مثيل لها حتى في دول أقل تقدمًا من بلدنا.
الدولة الجزائرية التي قام رئيسها تبون بإعادة الحياة إلى القطاع الصناعي الذي تم تدميره، قد حان الوقت أن تعيد إلى قطاع النقل العمومي مكانته، وأن تنهي “ليبيرالية العبث” التي لا يجيدها الجزائري إلا كفرصة للنهب والسرقة واكتناز الأموال على حساب الخدمة العمومية المطلوبة. فالنقل قطاع عمومي يجب أن توفره الدولة ضمن صلاحياتها للمواطن.
إن اعتبار قطاع النقل العمومي البري للأشخاص قطاعًا استراتيجيًا يفرض إعطاءه الأولوية على حساب التنقل بالسيارات الخاصة، مع وضع سياسة واضحة له، حتى وإن اقتضى الأمر الاستعانة بتجارب دول أخرى لها تقاليد في هذا المجال. ويجب إنهاء الفوضى في منح الرخص للأفراد وحصرها في الشركات الكبرى، عمومية أو خاصة، وفق دفتر شروط واضح يتضمن توحيد نوعية الحافلات من حيث الماركة والشكل والألوان، احترامًا لجمالية المدن. أما “توحيد الماركات”، فهو يسهل عمليات الصيانة سواء عبر توفير قطع الغيار أو عبر تكوين ميكانيكيين متخصصين. ولسنا نحن من اخترع النقل العمومي للأشخاص، بل علينا أن نستفيد مما هو مطبق في بلدان أخرى.
النقل العمومي قطاع استراتيجي لا يمكن السماح فيه بالفوضى كما نراها عندنا. والمصيبة الكبرى أن ما يجري عندنا يمارس تحت شعار “الليبرالية”، بينما هي في الحقيقة فوضى عارمة. ففي العالم كله، القطاع الخاص الذي يتكفل بالنقل يعتمد على شركات وأموال منظمة، بعيدًا كل البعد عمّا يجري في الجزائر.
الوضع الموروث يعود إلى حقبة الشاذلي بن جديد وموضة الانفتاح على القطاع الخاص، لكنه في الحقيقة لم يكن سوى أوهام. لأن القطاع الخاص عندنا يختلف جذريًا عن باقي دول العالم.
حان وقت مراجعة كل السياسات المطبقة على هذا القطاع، بما في ذلك عمل مراكز المراقبة التقنية، التي يجب أن تراقب بصرامة، ويعاقب كل من يتهاون، لأن أمن المسافر وحياة المواطن أمر مقدس لا تفريط فيه. والعودة إلى تأسيس شركات عمومية للنقل البري للأشخاص هو الطريق الوحيد لإنقاذ هذا القطاع الاستراتيجي من الانهيار.
سحب المركبات التي يتجاوز عمرها 30 سنة قرار جريء، في انتظار تحديد مقاييس علمية دقيقة لسنوات اهتلاك الحافلات. ففي أوروبا، لا تتجاوز 16 سنة، بينما يتم سحبها نهائيًا بعد 17 سنة من الخدمة أو بعد قطع 800 ألف كيلومتر، رغم توفر أعلى مستويات الصيانة لديهم.
الإصلاح هو كلمة السر في كل بلدان العالم، وحان الوقت لإصلاح العديد من القطاعات، وأولها قطاع النقل البري للأشخاص بعد كارثة وادي الحراش.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…