‫الرئيسية‬ الأولى الرقابة الأخلاقية تلاحق الثقافة في الجزائر!..
الأولى - الوطني - مقالات - 4 أغسطس، 2025

الرقابة الأخلاقية تلاحق الثقافة في الجزائر!..

الرقابة الأخلاقية تلاحق الثقافة في الجزائر!..
بينما تتهيأ الجزائر لاحتضان حدث فني ضخم يحييه النجم العالمي “دي جي سنيك” في ملعب نيلسون مانديلا، تفجرت من جديد موجة من الهجوم الأيديولوجي على المشهد الثقافي، قادها هذه المرة أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد، “حركة مجتمع السلم”.

في رسالة موجهة إلى وزارة الثقافة، دعت الحركة إلى تعليق كل الفعاليات الثقافية “الاحتفالية”، بذريعة التضامن مع الشعب الفلسطيني، مستعملة خطابًا عاطفيًا يراهن على وجدان الجزائريين المعروف بتعاطفه العميق مع القضية الفلسطينية. لكن ما يبدو في ظاهره تعاطفًا نبيلاً يخفي في جوهره نوايا أبعد وأعمق، الرغبة في فرض وصاية أيديولوجية على الفضاء العام، وممارسة شكل من الرقابة المقنعة على حياة الجزائريين، لا سيما شريحة الشباب التي تبحث عن متنفس وسط انسداد الأفق السياسي والاجتماعي.

لا يمكن عزل هذه الدعوة عن حملة أوسع تقودها تيارات محافظة ترى في كل مظاهر الفرح، والفن، والتعدد، تهديدًا لـ”هوية” تملك وحدها حق تعريفها. الحفلات والمهرجانات واللوحات الفنية والمسارح، صارت فجأة توصف وكأنها انحلال أو خيانة رمزية لقضايا الأمة، في حين أنها، في الحقيقة، لا تعدو أن تكون محاولات فردية وجماعية للتمسك بالحياة، للإبداع، للتعبير، وحتى للتنفس. وما يزيد من خطورة الوضع أن هذا النوع من الخطاب يلقى تساهلًا من السلطات، التي وإن لم تمنع الفعاليات مباشرة، فإنها غالبًا ما تلتزم الصمت، وتفسح المجال أمام هذه التيارات لممارسة ضغوط كافية لكبح أي نشاط ثقافي غير منسجم مع ذوقها أو تصورها الضيق للدين والمجتمع.

في هذا السياق المتوتر، تتوالى مؤشرات الانحدار، ليس فقط في المواقف، بل في السلوك والمشهد العام. فقد تابع الرأي العام مؤخرًا فيديو صادمًا لإمام يخاطب جثة ميت أمام الكاميرا، ويوثق المشهد ثم ينشره على وسائل التواصل الاجتماعي، في استعراض مذهل لانهيار الوعي الديني والأخلاقي والإنساني. هذا السلوك، الذي لا يمت بصلة إلى روح الإسلام، يكشف كيف تحوّل بعض من يُفترض أن يكونوا حماة للقيم الروحية إلى صانعي عروض جوفاء، تسوّق التدين كفرجة رخيصة. المفارقة أن هذا الإمام نفسه كان من الذين هاجموا المفكر الإصلاحي عدنان إبراهيم لأنه انتقد حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، التي لا تزال تمثّل مرجعًا روحيًا وإيديولوجيًا لبعض التيارات الدينية في الجزائر، رغم كل ما كُشف عنها من تورط في نشر العنف والانقسام.

إن أزمة الخطاب الديني في الجزائر لم تعد مجرد خلافات فكرية بين تيارات، بل تحوّلت إلى تهديد فعلي للسلم الاجتماعي والهوية الوطنية. عندما تُمنح المنابر لمن يكفّر الآخر، أو لمن يحرّم استخدام الثلاجة أو المكيّف، أو لمن يجعل من البسملة سلاحًا سياسياً لتصفية الحسابات، فإننا نكون أمام انهيار واضح في منظومة المرجعية الدينية التي كانت لقرون تحمي الجزائريين من التطرف والانغلاق. السؤال المؤلم هو، أين مؤسسات الدولة التي تصرف المليارات على الشؤون الدينية؟ أين العلماء الرسميون، والمجالس الفقهية، والمرجعيات التقليدية؟ لماذا هذا الصمت المطبق إزاء فوضى الفتاوى والتكفير والتحريم المجاني؟ في كل دول العالم، تُضبط الفتوى بقواعد علمية وأخلاقية دقيقة، ولا تُترك في أيدي من لا علم لهم ولا رصانة ولا وعي بعواقب الكلام في الدين.

في هذا المشهد العبثي، تبدو الثقافة كأنها الجبهة الأخيرة المتبقية للدفاع عن المعنى والحرية. الحفل المستهدف ليس مجرد سهرة، بل هو تعبير عن رغبة مجتمع شاب في الحياة، في مواجهة قوى تريد جرّ البلاد إلى مناخات الموت الرمزي. ومنع الحفل ليس سوى محاولة رمزية لمنع الفرح، وتطبيع الحزن، وفرض الصمت على ما تبقى من صوت حر. السلطة التي تدّعي دعم الثقافة حين تحتاجها، تنكفئ حين يتقدم الرقيب الأخلاقي ليحسم المعركة لصالح التشدد، لا بالتشريع بل بالصمت، لا بالمنع المباشر بل بالتخلي عن مسؤولياتها.

الجزائر التي دفعت ثمناً باهظاً لمقاومة الإرهاب في تسعينات القرن الماضي، تُواجه اليوم تهديدًا جديدًا أقل دموية لكن أكثر خنقًا. تهديد يمارس اغتيالًا بطيئًا لكل ما هو حر، وجميل، ومفتوح على العالم. تيارات تشوّه الدين باسم الغيرة عليه، وتحوّل الوطنية إلى سلاح لتكميم الأفواه، وتختزل الهوية في اللباس، والخطاب، والتشابه القسري. هذا الانحدار لا يمكن مواجهته إلا بصحوة حقيقية، لا تقتصر على المثقفين بل تشمل أيضًا مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام، وتبدأ أولاً باستعادة المرجعية الوطنية الدينية من أيدي الدخلاء عليها.

الجزائر لا تحتاج إلى مزيد من الرقابة، بل إلى ثقة أكبر في أبنائها، في عقولهم، وفي قدرتهم على التمييز. ما تحتاجه اليوم ليس تعليق الحفلات بل تعليق هذا التسيّب، هذه الفوضى، هذا الصمت. فالفن لا يهدد الأوطان، بل يحميها من التآكل. والإبداع لا يخون القضايا، بل يمنحها روحًا إنسانية. ومنع الحفلات، في النهاية، ليس سوى منع للحياة نفسها.

هذه اللحظة التي نعيشها في الجزائر ليست فقط لحظة صراع بين من يريد حفلاً ومن يريد منعه، بل لحظة حاسمة يتجلى فيها الصراع بين رؤيتين للبلد: واحدة تؤمن بأن الجزائر وطن حي، متنوع، عصري، يحق فيه لكل مواطن أن يفرح، أن يرقص، أن يغني، أن يختلف، أن يفكر، وأخرى تريد اختزاله إلى قالب ديني واحد، مغلق، خانق، حيث كل ما هو مختلف يُعتبر فتنة، وكل ما هو مفرح يُنظر إليه كخيانة. نحن لا نتحدث عن حفلة موسيقية بل عن مبدأ: هل نعيش في دولة تسمح بالتعدد والاختلاف، أم في حظيرة فكرية تسير فيها الجموع بنفس الإيقاع والتفكير والخوف؟

إن ما يُستهدف اليوم في الجزائر ليس فقط حفل “دي جي سنيك” أو أي فعالية فنية قادمة، بل يُستهدف جيلٌ بأكمله، جيل شاب، وُلد في ظل التسعينات لكنه لم يخترها، نشأ على الأنقاض، لكنه يبحث عن الضوء، يعيش في واقع اقتصادي خانق، وتضييق سياسي مستمر، ويُطلب منه فوق ذلك أن يبتلع خطابات الكآبة والجلد الذاتي، دون أن يطالب بحقه في الفرح. هذا الجيل الذي لم يتورط في الإرهاب، ولم يراكم الامتيازات، ولم يشارك في أخطاء الماضي، يُعامل اليوم كأن عليه أن يدفع ثمن “الهوية” التي صاغها غيره، في حين أن الحقيقة أن الهوية ليست جامدة، بل هي ما يصنعه الناس كل يوم: في لباسهم، أغانيهم، أفلامهم، أفكارهم، وضحكاتهم.

الخطاب الأخلاقي المحافظ الذي يعلو اليوم من منابر بعض الأحزاب، لا يستمد مشروعيته من العقل أو العلم أو التاريخ، بل من إحساسه الدائم بتهديد خيالي. هؤلاء الذين يرون في الموسيقى انحلالًا، وفي المسرح خطرًا، وفي اللوحة الفنية مؤامرة، لا يملكون مشروعًا بديلًا للحياة، بل فقط مشروعًا للمراقبة، للمحاسبة، للمنع. يهاجمون الثقافة لأنهم لا يفهمونها، ويخشونها لأنها تعري خواء خطابهم. ولأن الثقافة في عمقها ليست زينة تُعلَّق على هامش النظام، بل هي القوة الوحيدة التي تتيح لنا تخيل واقع آخر، ومستقبل أفضل، فهي تُرعب كل من يريد تثبيت الوضع على ما هو عليه.

والأدهى أن هؤلاء ليسوا وحدهم، بل يتحركون داخل فراغ تركته مؤسسات الدولة، التي حين صمتت عن فوضى الفتاوى والتكفير، منحت الفرصة لتمدد هذا التيار، وحين انسحبت من تأطير الحياة الروحية والدينية، فتحت الباب أمام كل صوت مرتجف، وكل خطيب جاهل، وكل إمام يخاطب الميت أمام الكاميرا، في أداء استعراضي يسيء إلى الدين أكثر مما يخدمه. هذا الانهيار ليس مجرد انزلاق فردي، بل نتيجة مباشرة لإهمال طويل وممنهج لمنظومة دينية كان يمكن أن تكون مصدر توازن واعتدال، لكنها تحوّلت إلى مؤسسة شكلية تكتفي بالخطابات العامة بينما تترك المجال العملي تحت سيطرة من لا مسؤولية لديهم.

وإذا كان البعض ما يزال يعتقد أن هذا الصراع رمزي، فليلتفت إلى ما خلفته فوضى الفتاوى، والتكفير، وتحريم كل جديد. هذا مناخ لا يولّد سوى الانغلاق، والاحتقان، والرفض المتبادل. لا يُمكن لبلد أن يتطور، أو أن يتعافى حتى، إذا كان أبناؤه يُربّون على كره الفنون، واحتقار الفكر، والخوف من الحرية. ولا يُمكن لبنية دينية أن تكون فاعلة، إذا كانت تُدار بالصراخ لا بالعلم، وبالتحريم لا بالحوار، وبالتخويف لا بالمسؤولية. لم نصل إلى هذا المستوى من التدهور الأخلاقي والديني والوطني إلا لأن الصمت طال، والمحاسبة غابت، والردع اختفى، وفسح المجال لهواة العمائم أن يتحولوا إلى نجوم في فضاء لا رقيب فيه سوى الشعبوية.

حين ينهض إمام ويُحرم جهازًا كهربائيًا، أو يُكفّر موظفًا لأنه لم يبدأ خطابه بالبسملة، أو يُجاهر بتحريم الفن، ولا يجد من يرد عليه من مؤسسات الدولة، فالمصيبة ليست فيه وحده، بل في النظام الذي سمح له بالحديث، وامتنع عن التصحيح. الجزائر اليوم لا تعاني فقط من خطاب متشدد، بل من انسحاب شامل للدولة من معركة الوعي، وترك المجتمع رهينة تنافس بين الجهلاء والمتاجرين بالدين، وبين قلة من المفكرين والعقلاء الذين يُحاصرون في الإعلام أو يُدفعون إلى الصمت.

كل هذا يجعل من دعوة حركة مجتمع السلم إلى تعليق الفعاليات الثقافية، مجرد واجهة لصراع أكبر، صراع على معنى الجزائر، على روحها، على مستقبلها. وإذا لم يُواجه هذا التراجع الآن، وبقوة، فسنجد أنفسنا بعد سنوات في بلد يلبس ثوبًا لا يشبهه، ويخاف من شبابه، ويكفّر مبدعيه، ويتوجّس من أي ضحكة لا تمر عبر غربال الرقابة الأخلاقية.

الجزائر لا تحتاج إلى فتاوى تُوزّع على المقابر، ولا إلى أئمة يُحاورون الموتى، بل تحتاج إلى وعي جماعي جديد، يربط بين الدين الحقيقي والحرية، بين الأخلاق والفن، بين الوطنية والانفتاح، بين الثقافة والكرامة. وإذا لم نقف الآن لنقول: “كفى”، فإن حفلة اليوم ستكون جنازة الغد، لا لمغنٍ أو فنان، بل لفكرة الجزائر التي نحلم بها جميعًا: جزائر حرة، متنوعة، مفتوحة، وحيّة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…