العقوبات… الوجه الاقتصادي للحرب العالمية الثالثة
قمة الاتحاد الأوروبي تقرر فرض المزيد من العقوبات على روسيا، في تأكيدٍ واضحٍ لتوجه المواجهة الشاملة ضد الروس. وتأتي هذه العقوبات الجديدة التي استهدفت بشكل مباشر قطاع الطاقة، النفط والغاز، بحضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في بروكسل، الذي لم يُخفِ سعادته بهذه الخطوات خلال المؤتمر الصحفي بمقر القمة، حيث ظهر مبتهجًا وكأنّ الحرب أصبحت بالنسبة له انتصارًا شخصيًا. اللافت أن هذه العقوبات الأوروبية تزامنت مع قرارٍ آخر من الرئيس الأمريكي نفسه، الذي أعلن فرض عقوبات جديدة على شركات نفط روسية في خطوةٍ فُهمت على نطاق واسع على أنها تصرف متناقض يعكس سياسة خارجية أمريكية مضطربة ومتقلّبة من دقيقة إلى أخرى، بين التهديد والابتزاز والمناورة.
شركة النفط الهندية من جانبها أعلنت استعدادها لتقليص وارداتها من النفط الروسي بنسبة تصل إلى 40%، بعد ضغوطٍ أمريكية مكثفة في الأسابيع الأخيرة، وهو ما يُظهر أن الغرب ماضٍ في سياسة الخنق الاقتصادي ضد روسيا من خلال الضغط على كل الشركاء التجاريين، حتى من خارج المعسكر الغربي. هذا التوجه يجعل من “أسطول الظل” الذي ينقل النفط الروسي هدفًا مباشرًا للمراقبة والحصار، بهدف منع موسكو من تحقيق مبيعاتها النفطية عبر الطرق غير الرسمية التي لجأت إليها لتفادي العقوبات. في المقابل، قرر الاتحاد الأوروبي المضي في استخدام الأموال الروسية المجمّدة لتمويل المجهود الحربي الأوكراني، في سابقةٍ قانونية خطيرة تتعارض مع الأعراف الدولية، وصرحت ممثلة السياسة الخارجية والأمن الأوروبي المشترك، السيدة كاياك لاش، بتصريحٍ عدائي صريح قالت فيه إن على روسيا تعويض الخسائر التي تسببت بها في أوكرانيا. والغريب في الأمر أن هذه المسؤولة نفسها، التي لا تتوانى عن مهاجمة موسكو، لا تجرؤ على قول كلمة واحدة ضد إسرائيل، بل تدعمها بكل ما تملك من أدوات مالية وسياسية وإعلامية، وكأن العدالة والقانون الدولي يُطبّقان فقط على من يعادي الغرب لا على من يقتل الفلسطينيين ليلًا ونهارًا.
وفي خضم هذا الجو العَسكَرتي المشحون، جاء تصريحٌ خطير من جنرالٍ فرنسيٍّ دعا فيه صراحة إلى ضرورة التحضير لحربٍ ضد روسيا خلال ثلاث سنواتٍ على الأكثر. وهو تصريح لم يعد يُقرأ كمجرد رأي شخصي، بل كتعبير صريح عن توجهٍ استراتيجي غربي نحو مواجهةٍ عسكرية مفتوحة مع موسكو، وهي المواجهة التي يبدو أن واشنطن منخرطة فيها بعمق، وتدفع حلفاءها الأوروبيين نحوها تدريجيًا عبر خطواتٍ متصاعدة. الرد الروسي لم يتأخر، إذ أشرف الرئيس فلاديمير بوتين شخصيًا على مناورات “الثالوث النووي” الروسي، في عرضٍ للقوة فُسّر على نطاقٍ واسع بأنه رسالة مباشرة للغرب مفادها أن موسكو مستعدة لكل الاحتمالات، بما فيها خيار الردع النووي. المراقبون وصفوا هذه الخطوة بأنها دليل على أن الحرب الباردة لم تعد مجرد احتمالٍ تاريخي، بل أصبحت واقعًا يتشكل أمام أعين العالم، وأن أي انزلاقٍ غير محسوب قد يقود إلى كارثةٍ نوويةٍ غير مسبوقة في التاريخ الإنساني الحديث.
وفي الوقت ذاته، كشفت مصادر استخباراتية غربية عن قيام روسيا بتطوير نظامٍ إلكتروني فائق السرية قادرٍ على كشف التحركات العسكرية على بعد مئات الكيلومترات، بل وحتى في أعماق البحار والمحيطات، بهدف تأمين مواقع غواصاتها النووية وردّ أي محاولةٍ لاستهدافها قبل حدوثها. هذا التطور يعكس أن موسكو تُحضّر نفسها لسيناريوهاتٍ ميدانيةٍ طويلة الأمد، وأنها تدرك جيدًا أن الحرب ضدها لم تعد مجرد حرب اقتصادية، بل محاولة شاملة لضرب استقرارها السياسي والعسكري معًا. الصهيونية العالمية، كما يسميها البعض، تبدو مصممةً على تدمير روسيا بأي ثمن، وهي التي تحرك كثيرًا من دوائر القرار في الغرب، وتدفع بالعالم نحو مصيرٍ مظلمٍ لا يشبه إلا الانتحار الجماعي للبشرية. العالم يسير بخطى ثابتة نحو حالة تشبه الحرب الباردة القديمة، ولكن بخطورةٍ أكبر، إذ يكفي خطأ واحد، حتى لو كان غير متعمد، لإشعال حربٍ نوويةٍ شاملةٍ ستحرق الأخضر واليابس.
زيلينسكي، الذي لا يخفي سعادته كلما فرض الغرب عقوباتٍ جديدة على روسيا، عبّر في كلمته بعد قمة بروكسل عن فرحته الغامرة بما سماه “انتصار الدبلوماسية الأوكرانية”، وحذّر في الوقت نفسه من احتمال قيام موسكو بقصفٍ جديد يستهدف المدنيين الأوكرانيين. المثير في خطابه أنه تحدث بإسهابٍ عن أعداد القتلى الروس وفق تقديراته، لكنه لم يتحدث ولو بجملةٍ واحدة عن خسائر أوكرانيا البشرية والمادية الهائلة. كما كشف عن احتمال حصول بلاده على صواريخ “توماهوك” الأمريكية الصنع، وهو ما يعني عمليًا دخول خبراءٍ عسكريين أمريكيين إلى الأراضي الأوكرانية لتشغيل هذه المنظومات المعقدة، مما يجعل من الصراع الأوكراني-الروسي حربًا بين موسكو وواشنطن بالوكالة، لا مجرد مواجهةٍ إقليمية. ومن البديهي أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تصعيدٍ من هذا النوع، وستردّ بالقوة ذاتها أو ربما بأشدّ منها.
أما الاتحاد الأوروبي، بقياداته البيروقراطية الباردة التي تدور في فلك واشنطن، فيبدو اليوم منخرطًا بالكامل في التحضير لسيناريو حربٍ عالميةٍ ثالثة، حتى وإن لم يُعلن ذلك صراحة. الغريب أن بعض مسؤوليه يتحدثون عن الحرب وكأنها أمرٌ محتوم، دون خجلٍ أو خوفٍ من العواقب، وكأنهم يتعاملون مع الانتحار الجماعي باعتباره لعبة سياسية مشوّقة. إن ما يجري اليوم ليس سوى انزلاق تدريجي نحو كارثةٍ شاملةٍ قد تعيد العالم إلى عصر الفوضى النووية، لأن كل قرارٍ يُتخذ في بروكسل أو واشنطن يزيد النار اشتعالًا بدل أن يُقرّب لحظة السلام. الغرب الذي اعتاد إشعال الحروب خارج حدوده، يبدو اليوم ماضياً في إشعالها داخلها، غير مدركٍ أنه يفتح على نفسه باب الجحيم الذي لن ينجو منه أحد، لا روسيا ولا أوروبا ولا حتى من يقف خلف الستار يحرّك المشهد من بعيد.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
واشنطن تبحث عن البقاء… بالحرب!
تُظهر التحولات الجيوسياسية الأخيرة أن الولايات المتحدة، القوة الأكثر نفوذًا منذ نهاية الحر…











