العلاقات الفرنسية الجزائرية: بين وجع الذاكرة وضباب المصالح
لم تكن العلاقة بين الجزائر وفرنسا يومًا عادية أو مستقرة، بل ظلت طوال العقود الستة الماضية تتأرجح بين محاولات التقارب وانفجارات التوتر، بين خطاب الاعتراف وخطاب التجاهل، وبين ذاكرة استعمارية دامية ومستقبل لم تُرسم ملامحه بعد. وفي حوار جمع خمسة قراء فرنسيين ونشرته إحدى الصحف مؤخرًا، عادت أسئلة الماضي لتفرض نفسها بقوة على حاضر العلاقات الثنائية، دون أن تغادر أحقادها القديمة أو تضع أوزارها.
من Chambray-lès-Tours، يكتب “ميشيل بيرو” عن الحرب باعتبارها “رعبًا متبادلًا”، منتقدًا من يفتح الجراح القديمة. لكن تساؤله عن “غياب التدمير الممنهج للقرى” ينم عن قراءة جزئية للواقع الاستعماري، تتجاهل شهادات الضحايا ومئات الوثائق التي أرخت لسياسة الأرض المحروقة، والتعذيب، والمجازر التي مورست بغطاء رسمي أو صمت ممنهج.
أما “أندريه راماوجي”، فينقل شهادته كجندي فرنسي شارك في التجارب النووية بالصحراء الجزائرية، معترفًا بتعرضه شخصيًا لأثرها، لكنه يسرع إلى تبرئة فرنسا الرسمية، متسائلًا إن كانت الرواسب الإشعاعية اليوم تُستغل لإرضاء “الحكومة الجزائرية”. وهنا يظهر التناقض: فبينما يعترف بالألم، يرفض الاعتذار، ويفضل التعلق بمقولة “السر الدفاعي” على مواجهة الحقيقة كاملة.
حديث “كريستيان ستوك” عن أهمية “إحياء الذاكرة بلا جدل سياسي” يبدو للوهلة الأولى دعوة راقية، لكنه يُفرغ الذاكرة من مضمونها النضالي، ويجعل منها مناسبة رمزية بلا عمق سياسي أو أخلاقي. أما “داميان ديسير”، فيتساءل لماذا لا يتعامل ماكرون مع الجزائر “بصرامة” كما يفعل مع روسيا، ويكشف بذلك خيطًا غير مرئي في الخطاب العام الفرنسي: فكرة “الجزائر التي تهيننا”، في استحضار ضمني لعلاقة سيد ومستعمَر لم تُهدم بعد في اللاوعي الجماعي الفرنسي.
في حين يكتب “جان كلود لوكتو” عن الجنود الفرنسيين الذين “ماتوا في حرب ما كان يجب أن تكون”، ويبدو من بين القلائل الذين يعترفون بأن الحرب كانت خطأ أخلاقيًا وإنسانيًا لا يُغتفر، رغم تأخر الاعتراف.
يبدو من هذه الرسائل أن هناك خلطًا دائمًا بين الجزائر كدولة مستقلة وذات سيادة، والجزائر كمرآة للذنب التاريخي الفرنسي. فكلما طالبت الجزائر بالاعتذار أو التعاون الندّي، اعتُبرت “متعالية” أو “مزعجة”، وكلما تحدثت عن حقوقها التاريخية، صُورت كعدو محتمل أو كيان غير ناضج.
الخطير في بعض هذه الخطابات هو أنها تُضفي على السياسات الفرنسية تجاه الجزائر طابعًا عقابيًا، كما لو أن باريس لا تزال تنظر إلى الجزائر من موقع أخلاقي أعلى، رغم أن الواقع الجيوسياسي تغيّر، وأن الجزائر اليوم شريك لا تابع، وقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.
ربما آن الأوان لإعادة صياغة العلاقة بين البلدين على أساس الاعتراف المتبادل، والاحترام الكامل للسيادة، وطيّ صفحة الاستعلاء. فالحوار لا يبدأ حين نُملِي شروطنا، بل حين نعترف بالخطأ، ونمد اليد بصدق، لا بوصاية.
الذاكرة ليست عبئًا إذا وُظفت لبناء مستقبل أفضل، لكنها تصبح قيدًا إذا استُخدمت كسلاح سياسي. والجزائر ليست حقلًا لتجارب النووي، ولا ساحة لتفريغ القلق الفرنسي، بل دولة حرّة لها تاريخ، وشعب لا ينسى.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …