‫الرئيسية‬ الأولى الفساد في الإشهار يجر ثلاثة وزراء أمام العدالة
الأولى - الوطني - مقالات - 11 أغسطس، 2025

الفساد في الإشهار يجر ثلاثة وزراء أمام العدالة

الفساد في الإشهار يجر ثلاثة وزراء أمام العدالة
أطلق القطب الجزائي الاقتصادي والمالي بمحكمة سيدي أمحمد بالجزائر العاصمة مساراً قضائياً جديداً في واحدة من أكثر القضايا حساسية في قطاع الإعلام العمومي، وهي القضية المعروفة إعلامياً بـ”أناب 2″، والمبرمج أولى جلساتها يوم 19 أوت 2025، وفق ما أوردته صحيفة “الخبر” نقلاً عن مصدر قضائي رسمي. هذه المحاكمة ليست مجرد إجراء عابر، بل تأتي امتداداً لسلسلة من الملفات الثقيلة التي طالت الوكالة الوطنية للنشر والإشهار خلال السنوات الأخيرة، أبرزها فضيحة “أناب 1” التي أدت إلى إدانة مسؤولين رفيعي المستوى في قطاعي الإعلام والشباب والرياضة. وتكشف هذه الملفات عن ممارسات ممنهجة، تجاوزت مجرد أخطاء إدارية إلى شبهات فساد مالي متجذر، ارتبط بتبديد المال العام، ومنح امتيازات غير مبررة، وتوزيع موارد الإشهار العمومي خارج الأطر القانونية الشفافة.

القضية الحالية، بحسب المصدر نفسه، تضم 13 متهماً، من بينهم وزيرا الاتصال السابقان جمال كعوان وحميد ڤرين، إضافة إلى المدير العام السابق للوكالة أمين شيكر، وعشرة مسؤولين وموظفين آخرين. وتعود الوقائع إلى سنة 2023، حين فتحت الجهات القضائية تحقيقاً معمقاً بعد تقارير أعدتها الشرطة القضائية للأمن الداخلي. وأظهرت التحقيقات وجود تجاوزات صارخة، منها منح مساحات إعلانية لصالح صحف وهمية لا تملك أي حضور حقيقي في السوق، واعتماد معايير غير مهنية في اختيار المؤسسات المستفيدة، وهو ما يشير إلى وجود محاباة وتلاعب يضر بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص الذي يفترض أن يحكم توزيع الإشهار العمومي.

هذا الملف لا يمكن عزله عن سياق سابق، فقد سبقه ملف “أناب 1 وقطاع الشباب والرياضة”، الذي اختُتمت محاكماته في 4 جوان 2025 بإصدار أحكام تراوحت بين البراءة و8 سنوات سجناً نافذاً. في ذلك الملف، كان من بين أبرز المدانين وزير الشباب والرياضة الأسبق عبد القادر خمري، إضافة إلى مسؤولين سابقين في الوكالة الوطنية لتسلية الشباب وموظفين آخرين، بتهم مرتبطة بسوء التسيير وتبديد المال العام. تكرار نفس النمط من المخالفات في مؤسستين عموميتين مختلفتين، وفي فترات زمنية متقاربة، يعزز الاعتقاد بأن الإشكال يكمن في المنظومة الإدارية والقانونية التي تحكم توزيع الإشهار العمومي، أكثر مما يكمن في الأشخاص أنفسهم.

الإطار القانوني الذي تُحاكم على أساسه هذه القضايا واضح، إذ تستند النيابة العامة في متابعة المتهمين إلى القانون رقم 06-01 المؤرخ في 20 فيفري 2006، والمتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته، والذي يجرم أفعال تبديد المال العام وسوء استغلال الوظيفة ومنح امتيازات غير مبررة. ومع ذلك، فإن وضوح النصوص القانونية لم يمنع استمرار هذه الممارسات لسنوات، ما يطرح تساؤلات جدية حول فعالية الرقابة الداخلية والآليات المؤسسية التي يفترض أن تضمن شفافية توزيع الإشهار العمومي.

وبينما يترقب الرأي العام انطلاق جلسات 19 أوت، يتزايد القلق من أن تظل هذه المحاكمات مجرد ردع ظرفي دون استخلاص الدروس والشروع في إصلاح طرق التسيير. إذ من غير المنطقي أن تتم معاقبة بعض الأفراد بينما تبقى الهياكل التنظيمية القائمة التي سمحت بحدوث هذه الانحرافات على حالها، أو أن يُعاقب المدير المذنب في تسيير أموال الشركة بينما يظل المستفيد من تلك الأموال بعيداً عن دائرة المساءلة..!

وهنا يبرز سؤال مشروع، هل يجب على الجزائريين أن ينتظروا “أناب 3” حتى تتخذ السلطات إجراءات جذرية تمنع تكرار هذه الممارسات؟ الإصلاح الجذري لا يتحقق بالمحاكمات وحدها، بل بتغيير قواعد اللعبة وتحصين المؤسسات من أي انحرافات مستقبلية، وهو ما يجعل من هذه القضية اختباراً حقيقياً مدى التزام السلطات المعنية بتوجيهات رئيس الجمهورية، الذي جعل من دعم الصحافة وتعزيز الشفافية أحد وعوده الانتخابية الأساسية.

وفي هذا السياق، وعند مقارنة واقع الإشهار العمومي في الجزائر مع تجارب دولية، نجد أن العديد من البلدان وضعت أنظمة شفافة وفعّالة لضمان حيادية توزيع هذه الموارد وعدم تحويلها إلى وسيلة للمحاباة. ففي فرنسا، يتم الإشراف على توزيع الإشهار العمومي من خلال وكالة مستقلة تعمل وفق معايير واضحة تعتمد على نسب الانتشار والمقروئية وجودة المحتوى، مع نشر تقارير سنوية متاحة للرأي العام. وفي كندا، يخضع الإشهار العمومي لقانون “الشفافية في الإنفاق الحكومي على الإعلانات”، الذي يفرض على المؤسسات الحكومية نشر تفاصيل العقود والقيمة المالية وأسماء المستفيدين على منصة إلكترونية مفتوحة. أما في إسبانيا، فقد أقرّ البرلمان نظاماً يلزم بتوزيع الإشهار على نحو يضمن التنوع الإعلامي، ويمنع احتكاره من قبل عدد محدود من الصحف أو القنوات. وحتى في بعض الدول النامية مثل جنوب إفريقيا، تم إنشاء “مجلس الإشهار الحكومي” كمؤسسة شبه مستقلة تتولى مراقبة العقود ومنع أي تعارض للمصالح، وهو ما ساعد على تعزيز ثقة وسائل الإعلام في نزاهة العملية.

هذه التجارب تؤكد أن الإشهار العمومي، إذا أُدير وفق قواعد مهنية وقوانين صارمة، يمكن أن يتحول إلى محرك أساسي لدعم الإعلام المستقل وحماية التعددية، بدل أن يكون مصدراً للفساد والاتهامات. وهو ما يجعل من الضروري الاستفادة من هذه النماذج الدولية عند التفكير في إصلاح منظومة الإشهار في الجزائر، مع مراعاة خصوصية البيئة القانونية والإعلامية المحلية.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…