‫الرئيسية‬ الأولى المثقف الجزائري ومتلازمة جلد الذات!
الأولى - مقالات - 28 مارس، 2025

المثقف الجزائري ومتلازمة جلد الذات!

المثقف الجزائري ومتلازمة جلد الذات!
بعد الحكم القاسي الذي صدر بحق الكاتب بوعلام صنصال، الذي قضت محكمة جزائرية بسجنه لمدة خمس سنوات نافذة مع فرض غرامة مالية قدرها 3500 يورو، بدأنا نلاحظ تفاعلاً غير معتاد من قبل بعض الأوساط الثقافية والإعلامية الجزائرية، حيث بدأت تظهر تساؤلات حول ما إذا كان الحكم سيُطعن فيه أم لا.

أكثر ما يثير الانتباه هو التحليل المبالغ فيه من بعض المثقفين الذين يذهبون إلى حد القول بأن الجزائر قد رضخت لضغوط البرلمان الأوروبي والحكومة الفرنسية، متخذين من سرعة محاكمة صنصال وحكم المحكمة عليه دليلاً على هذh “الرضوخ”. هذه التساؤلات تتطور إلى محاكاة للواقعة على أنها بمثابة انتصار لفرنسا على الجزائر، دون اعتبار للمسار القانوني الذي ما زال قائمًا.

إلا أن ما يثير القلق في هذا السياق هو ظاهرة “جلد الذات” التي تهيمن على بعض الأوساط المثقفة الجزائرية، وهو أمر لا يخلو من الإهانة للبلد واهانة للمواطن الجزائري نفسه. إن التسرع في الحكم على الوضع والتفسيرات السطحية التي تُطرح حولها قد تقود إلى تصورات مغلوطة، تتنافى مع الواقع الموضوعي. صحيح أن قضية صنصال قد أثارت نقاشات حادة على المستويين المحلي والدولي، لكن من المهم أن نؤكد أن التفاوض على مصير الأفراد المحكوم عليهم، سواء كان الأمر يتعلق بصنصال أو بشخص آخر، لا يجب أن يتم النظر إليه من خلال النظارات السياسية الضيقة التي تلون الواقع بعواطف غير موضوعية.

من المعلوم أن العديد من الدول قد شهدت حالات مشابهة في إطار التفاوض بشأن مساجين أو أفراد محكوم عليهم، وهو أمر يعتبر جزءاً من السياسة الدولية والتعاون بين الدول. على سبيل المثال، بلجيكا قامت بتسليم الإرهابي أسد الله أسدي، الذي كان متورطًا في التخطيط لتفجير تجمع للمعارضة الإيرانية في باريس، بعد أن حكم عليه بالسجن لمدة 25 عامًا. على الرغم من رفضه للاستئناف، تم إتمام تسليمه إلى طهران في إطار صفقة سياسية، حيث جرى تبادل مصالح بين الدول المعنية. وعلى الرغم من قسوة الحكم، إلا أن المفاوضات التي أُجريت لم تأخذ بعين الاعتبار مدة السجن كعامل حاسم، بل تمحورت حول تبادل المصالح السياسية.

من هذا المنطلق، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم التلاعب بالقضية الجزائرية واعتبارها “خضوعًا” لضغوط دولية، بل على العكس، فإن الجزائر تعاملت مع القضايا المتعلقة بصنصال وغيره ضمن إطار قانوني محض، رغم الضغوط التي قد تُمارس عليها من مختلف الأطراف. من المهم هنا أن نشير إلى أن الجزائر قد أظهرت مرونة كبيرة في التفاوض في العديد من القضايا السابقة، ومنها قضية الرهائن الأمريكيين الذين تم إطلاق سراحهم في طهران خلال فترة كانت الولايات المتحدة نفسها قد فقدت فيها الأمل في استعادة مواطنيها من قبضة السلطات الإيرانية.

وبناءً على ذلك، فإن ربط محاكمة بوعلام صنصال بأي نوع من الرضوخ لفرنسا أو أي دولة أخرى هو تفسير قاصر وغير دقيق. فإذا كانت الجزائر قد رضخت لضغوط أي طرف خارجي، لكانت قد سلمت صنصال دون محاكمة، على الأقل كما كان من الممكن أن يتخيله البعض. إن الحكم الذي صدر ضده قد تم وفقًا لما تقتضيه القوانين الجزائرية، وهو ما لا يمكن تصنيفه على أنه استجابة لضغوط سياسية. إن مدة السجن، سواء كانت خمس سنوات أو خمسين عامًا، لا تكتسب أهمية في إطار التفاوضات السياسية، إذ يمكن أن تتم على أساس تبادل المصالح وتحديد أولويات الدول المعنية.

المحكوم عليه، مثل بوعلام صنصال، يمكن أن يكون موضوعًا لتفاوض سياسي في حال رفض استئناف الحكم في المدة المحددة، وهو ما سيتحول فيه الحكم إلى حكم نهائي يمكن أن يستدعي تدخل السلطات الجزائرية إذا ما تطلب الأمر ذلك. غير أن ما يثير القلق بشكل أكبر هو الظاهرة التي نراها اليوم، وهي تلك التي تتمثل في الاستهانة المستمرة بالقدرة الذاتية للجزائر، والتحليلات التي تحاول تصوير الجزائر وكأنها دولة لا تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، بل تتأثر بشدة بالضغوط الخارجية.

إن “جلد الذات” الذي نراه من بعض المثقفين الجزائريين أصبح مرضًا عضالًا يعكس صورة مشوهة للبلاد ويعزز التصور بأن الجزائر لا تزال في حالة من التبعية والضعف. هذا الوباء الفكري لا يمس فقط بمكانة الجزائر في المحافل الدولية، بل يتعداه إلى المساس بالكرامة الوطنية والتشكيك في استقلالية القرار الجزائري. فعلى المثقفين أن يتساءلوا: هل أصبح الجزائري يكره بلده إلى هذا الحد؟ هل وصل بهم الأمر إلى أن يستهينوا بأنفسهم كمواطنين؟

إذا كانت الجزائر قد قدمت تضحيات كبيرة في سبيل تحقيق استقلالها وكرامتها، فإن من غير المقبول أن يتواصل هذا المرض الثقافي الذي يعكس احتقار الذات. يجب أن نتذكر جميعًا أن الجزائر ليست مجرد أداة أو تابعًا للقوى الكبرى، بل هي دولة ذات سيادة تستطيع اتخاذ قراراتها بما يتناسب مع مصالحها وأولويات شعبها.

إن مرض “جلد الذات” هو بالفعل مشكلة ثقافية تحتاج إلى علاج فكري ونفسي، وأملنا أن يتمكن المثقفون الجزائريون من إعادة بناء صورة وطنهم والتعامل مع القضايا السياسية بروح من الموضوعية والواقعية. الجزائر، بكل تاريخها وأعراقتها، تستحق الاحترام والتقدير من أبنائها قبل الآخرين، ويجب أن نستمر في الدفاع عن استقلالها وكرامتها بكل قوة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…