الميغ-15 الجزائرية… كابوس الحسن الثاني في حرب الرمال
اندلعت حرب الرمال في خريف سنة 1963، بعد عام واحد فقط من استقلال الجزائر، حين أقدم الجيش المروكي على مهاجمة مناطق جزائرية قرب مدينة بشار من أجل احتلالها وضمها إلى ما يُسمى بمملكة “ما بين الوادين”.
تلك المملكة التي ما زالت، إلى يومنا هذا، تعيش على أوهام التوسع والهيمنة، وتعتقد أن مجرد وجود مروكي في أي مكان في العالم يمنحها حق المطالبة بذلك المكان وكأنه إرث تاريخي مزعوم. ولم يتوقف الأمر عند حدود الخيال السياسي، بل بلغ حدّ السخرية حين يخرج بعضهم للقول إنهم قد يطالبون بالقمر ذات يوم، لأن محمد الخامس شوهد – في مخيلة بعض أغبيائهم – جالسًا أو متكئًا نائمًا فوق سطحه، كما روى الوزير السابق زيان، الذي وجد نفسه فيما بعد وراء القضبان.
المعارك انطلقت على الحدود الغربية، حيث كان الجيش الجزائري حديث العهد بالاستقلال، محدود الوسائل، يفتقر للسلاح الثقيل والتجهيزات العصرية. ومع ذلك، ورغم ما حسبه المخزن فرصة ذهبية للانقضاض على الجزائر الجريحة، جاءت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان: الطيران الحربي الجزائري. فالحسن الثاني كان يظن أن الجزائر لا تملك من السماء إلا العصافير، ولم يكن يعلم أن هناك طائرات “ميغ-15” حربية حديثة وصلت إلى الجزائر كهدية من مصر والصين، وأن مجموعة من الشباب الذين أرسلتهم جبهة التحرير الوطني للتكوين في القاهرة وبغداد ودمشق وبيجينغ قد عادوا ليتولوا قيادتها. تلك الطائرات دخلت الوطن في الثاني من نوفمبر 1962، وكان أول ظهور لها بمناسبة احتفالات ذكرى اندلاع الثورة، لكنها لم تُكشف على نطاق واسع إلا حين حلّقت فوق سماء المغرب لتقلب كل الموازين.
كانت تلك الطائرات متمركزة في البداية في مطار بشار، لكن بسبب وجود الفرنسيين الذين لم يغادروا القاعدة الجوية بعد، تقرر نقلها إلى مطار صغير بمدينة مشرية. وهناك أشرف على تسييرها الطيار الراحل السعيد أيت مسعودان رفقة الطيار الطاهر بوزغوب، الذي وثّق تفاصيل تلك الحقبة في مذكراته. وما إن علم الحسن الثاني بتحليق طائرات جزائرية فوق مجاله الجوي حتى دبّ الرعب في قلبه، وسارع إلى طلب وساطات إفريقية ودولية لإيقاف الحرب، بعدما كان يظن أنه سيحسمها في أيام معدودة. المفاجأة أربكته، وزادت الطين بلة توغلات الجيش الجزائري داخل الأراضي المروكية، حيث تمكنت وحداته من التقدم أكثر من خمسين كيلومترًا في العمق، وهو ما شكل لطمة قوية للمخزن لا يزال صداها قائمًا.
إن تأسيس الطيران الجزائري لم يكن وليد الصدفة، بل كان ثمرة رؤية بعيدة المدى من قيادة الثورة الجزائرية، التي أرسلت منذ سنوات الكفاح الأولى مجاهدين وطلبة إلى مدارس الطيران في مصر والعراق وسوريا والصين. هؤلاء عادوا ليشكّلوا النواة الأولى لسلاح الجو الجزائري. وفي الثاني من نوفمبر 1962، دخلت “الميغ-15” إلى الجزائر بعد رحلة مضنية عبر ليبيا، تأخرت بسبب سوء الأحوال الجوية، لتظهر في سماء العاصمة الجزائرية خلال احتفالات ذكرى اندلاع الثورة. لم يكن أحد يتوقع أن هذا السلاح الناشئ سيتحول بعد عام واحد فقط إلى عنصر مفصلي يرعب المخزن ويقلب موازين القوى في مواجهة مباشرة.
مذكرات العقيد الطاهر بوزغوب تكشف تفاصيل دقيقة عن تلك المرحلة، من جبال الأوراس حيث انطلقت شرارة التحرير، إلى الأكاديميات العسكرية في المشرق والصين حيث صقل الطيارون الجزائريون مهاراتهم. وتوضح كيف أن الجزائر، وهي بالكاد تخرج من حرب تحرير دامية استمرت أكثر من سبع سنوات، كانت تفكر في المستقبل وتؤسس لسلاح جوي حقيقي، في حين كان الجار المروكي يراهن على ضعفها وارتباكها ليبتلع أراضيها. لكن المفاجأة كانت أن “الميغ-15” لم تكن مجرد طائرات عابرة، بل كانت رمزًا لإرادة دولة حديثة العهد بالاستقلال، عازمة على الدفاع عن سيادتها مهما كلف الثمن.
لقد شكّلت حرب الرمال درسًا مريرًا للحسن الثاني، الذي أدرك أن الجزائر ليست مجرد جار ضعيف يمكن ابتلاعه متى شاء، بل قوة ناشئة تملك الإرادة والقدرة على الرد. ومن المفارقات أن الطيران الجزائري، الذي وُلد في رحم المعاناة وفي ظل نقص الإمكانيات، نجح في أن يكون الورقة الرابحة التي قلبت المعادلة وأرعبت النظام المخزني. وما بين توغل الجيش الجزائري داخل العمق المروكي وتحليق الميغ فوق سماء المغرب، وجد الحسن الثاني نفسه مضطرًا إلى التراجع والبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه، بعد أن اكتشف أن حلم التوسع يمكن أن ينقلب بسرعة إلى كابوس.
إن حرب الرمال لم تكن مجرد نزاع حدودي كما يحاول البعض اختزالها، بل كانت اختبارًا حقيقيًا للسيادة الجزائرية. اختبار نجحت فيه الجزائر بفضل تضحيات رجالها وشجاعة طياريها الذين صقلتهم جبهة التحرير الوطني وأرسلتهم إلى أقاصي العالم ليتعلموا كيف يحمون سماء الوطن. والنتيجة أن طائرات “الميغ-15” دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، ليس فقط كرمز لبداية سلاح الجو الجزائري، بل أيضًا ككابوس أرعب الحسن الثاني وفضح أوهام مملكة ما بين الوادين التي لا تزال تلهث وراء سراب التوسع إلى يومنا هذا.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…