النائب عبد الوهاب يعقوبي “يعترف” بالتطبيع!
أصدر النائب الجزائري عبد الوهاب يعقوبي يوم التاسع والعشرين من سبتمبر 2025 بيانًا مطولًا بعنوان “بيان توضيحي للرأي العام”، افتتحه بالآية الكريمة من سورة النور: «لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين». أراد من ذلك إضفاء مسحة دينية وأخلاقية على رده، ليظهر في موقع “المظلوم” الذي لحق به البهتان، وهو أسلوب دأبت عليه حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
البيان جاء عقب الجدل الذي أثارته مشاركة يعقوبي في اجتماع أممي انعقد يوم الرابع والعشرين من سبتمبر بمقر الأمم المتحدة في نيويورك حول موضوع “الاستخدام التعسفي لبرمجيات التجسس”. الاجتماع نظمه البرلمان الأورو متوسطي بالتعاون مع لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن الدولي، وحضر يعقوبي بصفته نائبًا في البرلمان الجزائري، ممثلًا للجالية الوطنية في الخارج ومقررًا في تخصص الذكاء الاصطناعي. حاول من خلال البيان تبرير مشاركته، معتبرًا أن النقاش في الرأي العام بُني على “سوء فهم وتفسيرات مغلوطة”، وأن ما حدث في الجلسة الختامية لم يكن سوى “مشهد معد مسبقًا” افتعله نائب مصري لأغراض دعائية.
أكد يعقوبي أن الاجتماع لم يتضمن أي تمثيل رسمي للكيان المحتل، وأن الشخص الذي أثار الجدل لم يكن سوى ممثل عن طائفة الموحدين الدروز في فلسطين المحتلة. لكنه بتصريحه هذا تجاهل أن من يعيش هناك يحمل بالضرورة الجنسية “الإسرائيلية”، وأن العديد من أبناء الطائفة الدروز أعضاء في جيش الاحتلال، وهو ما يحوّل هذا التبرير إلى محاولة للتلاعب بعقول الرأي العام بدل أن يكون توضيحًا حقيقيًا.
كما شدد على أن ما حدث لا ينبغي اعتباره “تطبيعًا” أو تخليًا عن الثوابت الوطنية، مضيفًا أن مواقفه من القضية الفلسطينية ثابتة، وقد عبّر عنها مرارًا في الداخل والخارج. وذكّر بأن الجزائر منذ انضمامها إلى البرلمان المتوسطي عام 2005 شاركت في هياكله رغم وجود ممثلين عن الكيان المحتل، ولم يُعتبر ذلك تطبيعًا بل فرصة للدفاع عن فلسطين. وأشار إلى أنه استقال سابقًا من منصب نائب رئيس البرلمان المتوسطي واكتفى بمهمة مقرر الذكاء الاصطناعي، ليؤكد أن موقعه لم يكن على حساب مبادئه.
غير أن القراءة المتأنية للبيان تكشف تناقضًا صارخًا. فالتفريق بين “ممثل رسمي” و”ممثل طائفي” لا يغيّر من الحقيقة شيئًا، كل من يقيم في فلسطين المحتلة بعد 1948 أصبح مواطنًا “إسرائيليًا” بموجب قانون الجنسية لعام 1952، ويحمل جواز سفر يتيح له مغادرة الأراضي المحتلة عبر مطار بن غوريون للمشاركة في المحافل الدولية. وبالتالي، فإن أي حضور لشخص من هناك هو حضور للكيان المحتل نفسه، مهما حاول يعقوبي تغليفه بعبارات مخففة.
القضية ليست في الصفة البروتوكولية أو في طريقة تقديم الشخص، بل في الرمزية السياسية. فالاحتلال بارع في استغلال التفاصيل الصغيرة وتحويلها إلى مكاسب دعائية. مجرد جلوس نائب جزائري – يُعرف بانتمائه لتيار إسلامي رفع شعار مركزية فلسطين – في قاعة واحدة مع شخص لا يمكنه مغادرة أرضه إلا بجواز سفر صادر عن الكيان المحتل، يُقرأ على الفور ككسر للحاجز الرمزي وكتطبيع غير مباشر. يعقوبي في بيانه حاول نفي الشبهة بالاستناد إلى التفاصيل الإجرائية، بينما الرأي العام يقيّم المواقف من خلال الرمزية.
وتزداد خطورة المشهد عند النظر إلى موضوع الاجتماع ذاته، إذ خُصص لمناقشة “إساءة استخدام برمجيات التجسس”، وهو مجال يُعد الكيان المحتل رائدًا فيه، خصوصًا عبر شركة NSO وبرنامج “بيغاسوس” الذي استُخدم ضد الفلسطينيين وضد ناشطين وصحفيين وسياسيين عبر العالم، بل وضد آلاف الإطارات الجزائرية. كان المنتظر من النائب أن يستغل السياق لفضح تناقض وجود شخص قادم من الأراضي المحتلة في اجتماع يناقش جرائم الاحتلال الرقمية، لكنه آثر التبرير وتخفيف وقع الحادثة، وهو ما منح الاحتلال مكسبًا دعائيًا مجانيًا.
أما استشهاده بتاريخ الجزائر في البرلمان المتوسطي فيكشف تناقضًا آخر. فالجزائر دولة ذات سياسة خارجية واضحة وصلبة في دعم فلسطين، وتدير حضورها الدولي ضمن رؤية سيادية ومؤسساتية، ما جنّبها أي شبهة تطبيع. أما يعقوبي، وهو نائب فرد، فوجوده بجوار شخص يحمل جواز سفر صادر عن الكيان المحتل يُقرأ مباشرة كاختراق رمزي، لأن الرأي العام يحاكم المواقف بالمعيار الأخلاقي والسياسي لا بالبيروقراطية.
البيان إذن لم يكن توضيحًا بقدر ما كان اعترافًا ضمنيًا بالخطأ. فإقرار يعقوبي بأن ما جرى أثار جدلًا يحتاج إلى شرح هو بحد ذاته اعتراف بالمأزق. أما حججه – من اتهام نائب مصري بالافتعال إلى التذرع بأن الشخص “درزي” – فلا تغير من الحقيقة الجوهرية، لا أحد يغادر فلسطين المحتلة إلا بوثيقة صادرة عن الكيان المحتل، وهذا كافٍ لإثبات الطابع الرمزي للاختراق.
وعليه، فالبيان لم يغلق باب الاتهامات بل زادها، وأظهر يعقوبي في صورة المراوغ بدل السياسي الواثق بمواقفه. والدرس الأعمق من القضية أن فلسطين لا تحتمل المواربة ولا التبرير بالتفاصيل الشكلية. فهي قضية رمزية بالدرجة الأولى، ويُقاس فيها الموقف بمدى تجنب أي التباس يستفيد منه الاحتلال. وكل جلوس في قاعة واحدة مع شخص يحمل جواز سفر صادر عن الكيان المحتل – سواء كان درزيًا أو عربيًا من الداخل المحتل أو حتى من تيارات إسلامية متحالفة مع نتنياهو – هو جلوس مع الاحتلال نفسه.
النائب يعقوبي ببيانه المطول لم يبرئ نفسه، بل قدّم وثيقة جديدة يمكن أن تُقرأ باعتبارها اعترافًا بأنه وقع في الفخ، وأن ما جرى كان شكلًا من أشكال التطبيع الرمزي، وصمة سياسية ستظل تلاحقه مهما حاول إخفاءها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد
أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …







