النفقة وأحكام الحبس.. تعسّف إجرائي يزجّ بالآباء في السجون؟!
تُعدّ النفقة من أهم الالتزامات التي يرتبها قانون الأسرة في الجزائر، باعتبارها تجسيدًا لمبدأ حماية الطفل والمرأة وضمان الحد الأدنى من العيش الكريم بعد انحلال الرابطة الزوجية. غير أن الانتقال من النص القانوني إلى التطبيق القضائي يفرز إشكالات متزايدة، خاصة عندما يتحول الخلاف المدني حول النفقة إلى متابعة جزائية تنتهي أحيانًا بسجن الأب، في ظل معطيات تنفيذية محل نقاش قانوني واسع.
قانون الأسرة الجزائري واضح في إقراره لوجوب النفقة، سواء للزوجة أثناء قيام العلاقة الزوجية أو بعد الطلاق في حالات محددة، وكذا للأبناء دون تمييز. كما أن قانون العقوبات، من جهته، جرم الامتناع العمدي عن دفع النفقة بعد صدور حكم قضائي نهائي، واعتبره جنحة يعاقب عليها بالحبس والغرامة. من حيث المبدأ، يهدف هذا التجريم إلى ردع التهرب وضمان تنفيذ الأحكام، غير أن الإشكال لا يكمن في النص، بل في شروط تحقق الامتناع وفي وسائل إثباته.
في الواقع العملي، يُفترض أن الامتناع الجزائي لا يقوم إلا بتوفر عنصرين أساسيين، وجود حكم قضائي نهائي يقضي بالنفقة، وثبوت الامتناع العمدي رغم القدرة على الدفع. غير أن عدداً من القضايا المعروضة أمام المحاكم تُظهر أن هذا التمييز الدقيق لا يُحترم دائمًا، حيث يُختزل الامتناع في مجرد عدم التنفيذ، دون بحث جدي في القدرة المالية الحقيقية للأب أو في الظروف الموضوعية التي قد تحول دون الدفع.
وتبرز هنا إشكالية المحاضر المحررة من طرف بعض المحضرين القضائيين، خاصة محاضر الامتناع عن التنفيذ. فهذه المحاضر، التي يفترض أن تعكس حقيقة الوضع التنفيذي، أصبحت في بعض الحالات محل تشكيك، سواء من حيث دقة المعاينة أو من حيث استيفائها للشروط القانونية. إذ يُسجل، بحسب ممارسين في الميدان، تحرير محاضر تفيد بعدم الدفع دون التحقق الفعلي من الوضع المالي للمحكوم عليه، أو دون التأكد من تبليغه الصحيح بالحكم، أو حتى دون إثبات محاولات التنفيذ الجدية.
الأخطر في هذا السياق هو أن بعض هذه المحاضر تُعتمد كدليل شبه وحيد أمام القاضي الجزائي لإدانة الأب، دون فتح نقاش معمق حول عنصر العمد، وهو جوهر التجريم. فالقاضي الجزائي، وإن كان مستقلًا في تقديره، إلا أنه في كثير من الحالات يبني قناعته على محضر تنفيذي يفترض فيه الصدق، رغم أن الواقع التنفيذي قد يكون أكثر تعقيدًا مما يعكسه المحضر.
ويطرح هذا الوضع تساؤلات جوهرية حول العدالة العقابية في قضايا النفقة. فهل يُعقل سجن أب ثبت عجزه الحقيقي عن الدفع بسبب البطالة، المرض، أو هشاشة الوضع الاجتماعي؟ وهل يحقق الحبس غاية حماية الطفل، أم يؤدي عمليًا إلى نتائج عكسية، بحرمان الأبناء من أي مورد مستقبلي، وتعميق القطيعة الأسرية؟
عدد من القضاة والحقوقيين يرون أن العقوبة السالبة للحرية يجب أن تبقى آخر الحلول، وأن الأصل هو البحث عن بدائل تنفيذية أكثر واقعية، مثل إعادة تقدير مبلغ النفقة وفق القدرة الحقيقية، أو تفعيل آليات الصندوق الوطني للنفقة، أو اللجوء إلى إجراءات مدنية أكثر مرونة قبل تفعيل المسار الجزائي. كما يشددون على ضرورة أن تكون المتابعة الجزائية مبنية على امتناع ثابت، وليس على تعثر أو عجز مؤقت.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل وجود حالات امتناع متعمد وحقيقي، حيث يرفض بعض الآباء دفع النفقة رغم قدرتهم المالية، ما يستوجب تدخل القانون لحماية الطرف الضعيف. غير أن الخلط بين الامتناع والعجز يُفرغ النص القانوني من عدالته، ويحوّل العقوبة من وسيلة ردع إلى أداة ضغط غير متوازنة.
أما بخصوص المحضر القضائي، فإن مكانته كضابط عمومي تفرض عليه التزامًا صارمًا بالحياد والدقة، لأن محضره لا يُستعمل فقط في التنفيذ المدني، بل قد تكون له آثار جزائية خطيرة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تعزيز الرقابة المهنية، وتوحيد معايير تحرير محاضر الامتناع، وتمكين القاضي من وسائل تحقق إضافية قبل البناء عليها في إصدار أحكام سالبة للحرية.
إن ملف النفقة في الجزائر يعكس معادلة دقيقة بين حماية الحقوق الاجتماعية وضمان العدالة الجزائية. المطلوب ليس إلغاء التجريم، بل ترشيد تطبيقه، وضمان ألا يُسجن أب إلا إذا ثبت امتناعه العمدي الحقيقي، بعد استنفاد كل وسائل التنفيذ المدنية، وبناءً على معطيات تنفيذية دقيقة تعكس الحقيقة لا مجرد الشكل.
إن إصلاح هذا المسار لا يمر فقط عبر تعديل النصوص، بل عبر وعي قضائي ومهني مشترك، يضع مصلحة الطفل في صلب المعادلة، دون التضحية بمبادئ العدالة والإنصاف التي يقوم عليها القانون.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
من الحوسبة السحابية إلى الذكاء الاصطناعي.. هواوي تدعم التحول الرقمي في الجزائر
تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة تسارعًا لافتًا في وتيرة التحول الرقمي، في ظل إدراك متزايد …






