‫الرئيسية‬ الأولى الولايات المتحدة والجزائر… فرصة استراتيجية في زمن التعددية القطبية
الأولى - الوطني - مقالات - 16 يوليو، 2025

الولايات المتحدة والجزائر… فرصة استراتيجية في زمن التعددية القطبية

الولايات المتحدة والجزائر… فرصة استراتيجية في زمن التعددية القطبية
تتحرك الجزائر بثبات نحو موقع جديد على الخارطة الدولية، فيما تتنافس القوى الكبرى على إعادة تشكيل النظام العالمي. وبين الصين وروسيا والولايات المتحدة، تظهر الجزائر كفاعل مستقل، يتمتع بهامش من المناورة، ويملك رصيدًا من الاستقلالية السياسية جعل منه شريكًا صعبًا لكنه محتمل، إذا ما فُهم بشكل صحيح.

تُقدم الباحثة السياسية سابينا هينبيرغ، الباحثة البارزة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومديرة برنامج البحوث للباحثين الناشئين، في دراستها المعمقة التي تحمل عنوان “الانخراط الإستراتيجي الأميركي مع الجزائر: مسار في خضم التحولات العالمية”، رؤية تحليلية شاملة لإعادة تعريف العلاقة الأمريكية-الجزائرية في ظل نظام دولي جديد يتشكّل. فهي لا تكتفي بسرد التطورات الدبلوماسية، بل تغوص في أعماق البنية السياسية الجزائرية، والسياسات الخارجية، والمقاربة الأمريكية الحالية والممكنة تجاه الجزائر، خاصة في ظل الانزياح العالمي من الأحادية القطبية إلى نظام أكثر تعددية، غير مستقر لكنه واعد بإعادة صياغة التحالفات.

الجزائر، بحسب التقرير، دولة متجذرة في تاريخ ثوري يقوم على الاستقلال، وهي لا تزال إلى اليوم تُصر على سياسة عدم الانحياز. هذا الخيار، الذي أصبح نادرًا في السياق الإفريقي والعربي، يجعل منها لاعبًا فريدًا. فهي لا تدور في فلك أي محور: لا محور واشنطن، ولا بكين، ولا موسكو. وبعكس عدد من دول المنطقة، التي تبني علاقاتها الخارجية على الانتماء أو الحماية، فإن الجزائر تتعامل مع الدول الكبرى وفق مبدأ “المصلحة المتبادلة المتوازنة”.

من هنا، تنبه هينبيرغ إلى خطأ تاريخي ارتكبته السياسة الخارجية الأمريكية، تمثل في حصر العلاقة مع الجزائر في مجال مكافحة الإرهاب. فبعد أحداث 11 سبتمبر، نظر صناع القرار الأمريكيون إلى الجزائر على أنها حليف أمني مفيد في مجال محاربة الجماعات المسلحة، خاصة في منطقة الساحل. هذا البعد، رغم أهميته، لا يعكس طموحات الجزائر الحديثة، ولا احتياجاتها المتغيرة، ولا دورها الإقليمي الحقيقي. والأسوأ من ذلك، أنه قزم الشراكة الثنائية، وكرّس نظرة ضيقة لا تخدم الطرفين.

توصي هينبيرغ بأن تقوم الولايات المتحدة بـ”توسيع إطار الانخراط مع الجزائر”، ليشمل مجالات مثل الاقتصاد التحويلي، الطاقات المتجددة، إصلاح التعليم، الزراعة المستدامة، الابتكار التكنولوجي، ودعم المؤسسات المدنية. وترى أن هذه الشراكات “غير الأيديولوجية” هي ما يمكن أن يبني الثقة بين البلدين، لا سيما في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه الجزائر، مثل بطالة الشباب، اعتماد الاقتصاد على المحروقات، والبيروقراطية الثقيلة.

تشدد الدراسة كذلك على ضرورة “فهم عقلية الدولة الجزائرية”، التي تتسم بالحذر الشديد من النوايا الغربية، نتيجة التجارب التاريخية مع الاستعمار الفرنسي والتدخلات الأوروبية في الشؤون الإفريقية. لذا، فإن أي انخراط أميركي مشروط أو مسيّس سيفشل على الأرجح، بينما الشراكة المتكافئة القائمة على “عدم التدخل والسيادة” ستجد صدى إيجابيًا لدى صناع القرار الجزائريين.

أما في ما يتعلق بعلاقات الجزائر مع روسيا والصين، فترى هينبيرغ أنها مبنية على منطق “تنويع الشركاء” وليس الاصطفاف. الجزائر تشتري أسلحة روسية وتنسق مع موسكو سياسيًا، لكنها لا تتبنى المواقف الروسية كاملة. كما أنها انضمت لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، لكنها لا تقبل الهيمنة الاقتصادية أو نموذج الدولة المركزية الذي تطرحه بكين. إنها سياسة توازن تقوم على الاستقلالية.

توصي الدراسة الإدارة الأمريكية بتجنّب “الوصاية الفرنسية” في علاقتها مع الجزائر. إذ إن التعاطي الأميركي عبر باريس يعمّق الشكوك ويؤجج حساسيات استعمارية لم تُمح بعد من الذاكرة الجزائرية. وهنا ترى هينبيرغ ضرورة تطوير قنوات أمريكية مباشرة، رسمية وغير رسمية، مع الجزائر، سواء من خلال مبادرات أكاديمية، أو شراكات طلابية، أو برامج تبادل اقتصادي وتقني.

وتُشدد الباحثة على أهمية إدراك واشنطن بأن الجزائر ليست “ورقة في يد خصومها”، بل دولة ذات عقل استراتيجي تدرك قيمة استقلالها، وتبحث عن شركاء لا أوصياء. من هذا المنطلق، فإن الجزائر لا ترفض التعاون مع الولايات المتحدة، لكنها ترفض منطق الهيمنة والاصطفاف.

في الجانب الإقليمي، تلاحظ هينبيرغ أن الجزائر باتت لاعبًا مؤثرًا في ملفات مثل ليبيا، الساحل الإفريقي، ومالي. وهي تميل إلى التهدئة، الوساطة، والدبلوماسية الوقائية، في وقت تتجه فيه بعض دول الجوار نحو عسكرة المواقف. هذا الدور يمكن لواشنطن أن تدعمه وتستفيد منه، إذا ما نظرت إلى الجزائر كـ”قوة استقرار” لا كـ”دولة عازلة”.

كما يُولي التقرير اهتمامًا بالوضع الداخلي في الجزائر، حيث تُواجه البلاد مجموعة من التحديات التنموية والمؤسساتية، في ظل تطلعات متنامية من قبل الجيل الشاب نحو فضاءات أوسع للمشاركة الاقتصادية والاجتماعية، وفرص أكبر للابتكار والتطور المهني. وفي هذا الإطار، ترى هينبيرغ أن للولايات المتحدة دورًا محتملًا في دعم مسارات التنمية، من خلال المساهمة في تطوير المجتمع المدني، وتعزيز المبادرات التعليمية والتكنولوجية، وتشجيع روح ريادة الأعمال، دون المساس بالخيارات السياسية السيادية للدولة الجزائرية.

وفي خاتمة التقرير، تبلور سابينا هينبيرغ رؤية متكاملة لعلاقة استراتيجية جديدة بين الولايات المتحدة والجزائر، تقوم على أساس من الندية والاحترام المتبادل، وتنأى عن أنماط الهيمنة التقليدية. وتستند هذه الرؤية إلى ستة مرتكزات رئيسية:

أولًا، الاحترام الكامل لسيادة الجزائر، والامتناع عن فرض أي أجندات سياسية أو إيديولوجية. تنطلق هذه القاعدة من إدراك عميق لحساسية الجزائر التاريخية تجاه التدخلات الخارجية، وحرصها الدائم على الحفاظ على استقلالية قرارها الوطني.

ثانيًا، تدعو هينبيرغ إلى توسيع نطاق الشراكة الثنائية إلى ما هو أبعد من التعاون الأمني، لتشمل مجالات حيوية كالتحول الاقتصادي، تطوير نظام التعليم، والطاقات المتجددة. فالجزائر، كما تؤكد الباحثة، تمتلك إمكانات واعدة في هذه القطاعات، وتبحث عن شركاء موثوقين لدعم انتقالها نحو اقتصاد متنوع.

ثالثًا، توصي الباحثة بتجنّب الاعتماد على فرنسا كقناة وحيدة أو مفضلة للتواصل مع الجزائر، نظرًا إلى الإرث الاستعماري المعقد الذي يثقل العلاقات الجزائرية الفرنسية، والذي يُثير شكوكًا متجذرة لدى صناع القرار الجزائريين تجاه كل من يتحرك من خلال باريس.

رابعًا، تدعو الدراسة إلى بناء علاقات مؤسساتية مباشرة بين الولايات المتحدة والجزائر، تشمل الوزارات، الجامعات، مراكز البحث، والقطاع الخاص، بهدف خلق شبكات تواصل طويلة الأمد تتجاوز العلاقات الرسمية التقليدية.

خامسًا، تشجع هينبيرغ على ضخ استثمارات أميركية حقيقية وطويلة الأمد في القطاعات الاقتصادية الناشئة داخل الجزائر، بما يعزز التنمية ويخلق فرصًا جديدة للشباب، ويساعد في تقليص الاعتماد على الريع النفطي.

سادسًا وأخيرًا، تؤكد الدراسة على ضرورة التعامل مع الجزائر باعتبارها فاعلًا مستقلًا كامل السيادة في المعادلة الإقليمية، وليس كطرف تابع أو أداة لخدمة إستراتيجيات خارجية. فالجزائر، وفقًا لهينبيرغ، تملك رؤيتها ومصالحها، وتسعى إلى شراكات متوازنة لا تقوم على الاصطفاف أو التبعية.

تؤكد هينبيرغ في ختام دراستها أن الجزائر ليست لاعبًا من الدرجة الثانية، بل شريكًا ذا سيادة يجب التعامل معه بندّية واحترام. وإذا ما استجابت واشنطن لهذه المقاربة، فإن الجزائر يمكن أن تكون حليفًا استراتيجيًا في زمن تتغير فيه خرائط التحالفات يومًا بعد يوم.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …