“الوهابية” وتدنيس حرمة المقابر في الجزائر.. محاولة لاختراق الهوية الدينية الوطنية!
فجأة، ومن دون سابق إنذار، تعود تيارات الوهابية والسلفية إلى الواجهة من بوابتها المفضلة، المقابر. المشهد المثير للجدل، الذي وثقته كاميرات الهواتف في عدد من ولايات الوطن، يُظهر مجموعات من الشبان الملتحين وهم يقتحمون مقابر بحجة “استخراج أعمال سحرية مدفونة”، وبتوجيه من من يصفون أنفسهم بـ”الرقاة الشرعيين”، في مشهد لا يمتّ بصلة لأي مرجعية دينية وطنية معتمدة، ولا لأي أساس علمي أو شرعي.
لكن المسألة أعمق من مشهد استعراضي متكرر، فاقتحام المقابر بحجج السحر ليس سوى واجهة لحملة أيديولوجية تهدف إلى ضرب أحد آخر معاقل المرجعية الدينية الجزائرية: التصوف والمذهب المالكي، وفرض بديل طائفي متطرف يستند إلى قراءة تكفيرية للدين، طالما نبذها الجزائريون. فتيار الوهابية، الذي نشأ في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، كان أول ما بدأه هو استهداف الأضرحة والمقابر، بزعم أنها مظاهر “شرك”، وهو ما حدث في مكة والمدينة المنورة، حين دُمّرت قبور الصحابة والتابعين تحت فتاوى التكفير.
هذا التيار نفسه، الذي فُرض بقوة السلاح والسلطة السياسية في السعودية، عمل على إقصاء المذاهب السنية الأخرى كالمذهب المالكي، حتى أصبح كثير من المالكيين في الخليج يُخفون مذهبهم الحقيقي خوفًا من المضايقات. ويبدو أن السيناريو ذاته يُراد له أن يُعاد في الجزائر، هذه المرة عبر استهداف رمزية القبور، التي لطالما شكّلت في المخيال الشعبي الجزائري امتدادًا لروابط البرّ، والدعاء، والوفاء للأسلاف، لا مظاهر عبادة كما يزعم هؤلاء.
الهجوم على المقابر ليس بريئًا. إنه امتداد لأجندة قديمة تستهدف ضرب المرجعية الدينية الوطنية، وتجنيد الشباب في مشروع تكفيري لطالما كلّف الجزائر عشرية كاملة من الدماء والخراب. هذه العودة المفاجئة للوهابية في الفضاء العام تتزامن مع ارتباك تشهده بعض الدول ذات الثقل الديني التقليدي، مثل السعودية ومصر، التي بدأت تشهد حركة إصلاح ديني غير مسبوقة، ألغت فيها شرطة الأخلاق، وفتحت نقاشًا شجاعًا حول بعض المقولات التي كرّستها الوهابية، من الحجاب إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن المفارقات أن تيارًا كهذا، وُصم بالإرهاب في أكثر من محفل دولي، وجرى طرده من “تمثيل أهل السنة” في مؤتمر غروزني عام 2016 بحضور علماء من الأزهر الشريف، لم يجد حرجًا في أن يعيد انتشاره في بعض مناطق الجزائر عبر وسائط مموّهة، “رقية شرعية”، “مكافحة السحر”، “تصحيح العقيدة”، بينما الحقيقة أنه لا يفعل سوى التحريض ضد المذاهب الإسلامية الأخرى، وتجريم التعبير الروحي الشعبي، وتأليب الناس ضد تقاليدهم الدينية المتوارثة.
في كتابه الجريء “الوهابية الوجه الآخر لليهودية”، فضح الشيخ شمس الدين بوروبي جانبًا من هذه العقيدة المتأثرة بالتجسيم والمقولات التلمودية في تصورها للإله، ومحاربتها للمذاهب السنية الكبرى. لكن للأسف، لم يُمنح هذا العمل العلمي الاهتمام الكافي في الإعلام الجزائري، بسبب تغلغل تيار الإخوان المسلمين، الذي يشكّل الذراع السياسي للفكر الوهابي، في عدد من المنصات الدينية والإعلامية.
إن ما يجري اليوم في الجزائر من اقتحام للمقابر، ليس سوى الحلقة الأولى في مشروع أوسع للتحكّم في حياة الناس، من ولادتهم إلى موتهم. فبعد أن يتم الاستيلاء على مقابرهم، ستبدأ المعارك حول “شروط الدفن”، و”من يصلي ومن لا يصلي”، و”هل المرأة يجب أن تدفن في مقبرة منفصلة؟”، ثم تمتد رقابة “الرقي الشرعي” لتطال الجسد، والسلوك، والبيت، واللباس، والمرأة، وحتى النية.
وليس من المبالغة القول إن هذه الاستراتيجية تسعى لتحويل المقابر إلى مراكز مراقبة اجتماعية ونفسية، لا تختلف كثيرًا عن أدوات التجسس الحديثة، حيث يُستغل الخوف الديني لاستعباد العقول وترهيب الضمائر. بل لعلها أخطر، لأنها تتغلغل باسم الدين.
من هنا، فإن تصدي بعض سكان ولايات داخلية لهذه الممارسات الشاذة يستحق كل التقدير والدعم. حماية القبور من هذه الهجمات ليست فقط دفاعًا عن حرمة الموتى، بل عن هوية الوطن، وعن المرجعية الدينية الجزائرية، وعن العقل الجزائري المتسامح الذي لم يعرف الطائفية ولا التقاتل المذهبي عبر تاريخه الطويل.
ولا بد أن تكون هذه القضية محل تحرك حقيقي من الدولة والمجتمع، حمايةً للنسيج الديني والثقافي الجزائري، وقطعًا للطريق أمام أي محاولة لتكرار سيناريوهات العنف الديني التي عشناها في التسعينيات. فالوهابية والسلفية لا تريد فقط تدنيس المقابر… بل تريد دفن الجزائر كما عرفناها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…