اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سهامها هذه المرة نحو الطلبة الجزائريين المقيمين في الجامعات الفرنسية، متهمة إياهم بأنهم لا يأتون من أجل الدراسة بل بهدف البقاء والاستقرار في فرنسا بعد انتهاء مسارهم الأكاديمي. وكأنّ طلب العلم صار تهمة، وكأنّ الحلم بالمعرفة صار يُقرأ في باريس كخطة خفية للهجرة. لكن خلف هذا الجدل المفتعل، تختفي حملة سياسية منظّمة تُعيد إنتاج خطاب قديم يسعى لتغذية الخوف من الآخر كلما ضاقت الأزمات الداخلية بالطبقة السياسية الفرنسية.
بدأت شرارة هذه الحملة مع إعلان السفارة الفرنسية في الجزائر عن منح ألف تأشيرة إضافية للطلبة الجزائريين خلال الموسم الجامعي 2024-2025، وهو ما اعتبرته الأوساط الأكاديمية خطوة إيجابية نحو تعزيز التعاون العلمي والثقافي بين البلدين. غير أن اليمين المتطرف وجد في هذا الرقم مادة جديدة لتأجيج الجدل حول الهجرة والتعليم، فخرج بعض نوابه في وسائل الإعلام الفرنسية بتصريحات متشنجة. فقد قال النائب شارل رودويل في حصة تلفزيونية إن منح تأشيرات إضافية “لا معنى له إذا كانت موجهة لتخصصات لا تحتاجها فرنسا”، فيما ذهب زعيم حزب الجمهوريين إيريك سيوتي أبعد من ذلك حين صرّح بأن “نسبة الرسوب مرتفعة جدًا بين الطلبة الجزائريين، وأن الغالبية العظمى منهم يبقون في فرنسا بعد تخرجهم”. هذه العبارات التي تحمل بين طياتها نظرة استعلائية واضحة ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من محاولات اليمين المتطرف شيطنة الوجود الجزائري في فرنسا، سواء كان عاملًا أو طالبًا أو مثقفًا.
الحقيقة أن الطلبة الجزائريين في فرنسا لا يمثلون عبئًا كما يصوّرهم هذا الخطاب العنصري، بل هم أحد أعمدة التعاون العلمي بين البلدين. فبحسب الأرقام الرسمية، يبلغ عددهم نحو 28 ألف طالب خلال العام الجامعي 2024-2025، ما يجعلهم ثاني أكبر جالية طلابية أجنبية بعد المغاربة، متفوقين على الصينيين. ويدرس معظمهم في الجامعات العمومية الفرنسية، في تخصصات الأدب والعلوم الاجتماعية والطب والهندسة. ورغم التحديات اللغوية والإدارية والمادية التي يواجهونها، فإنهم يُعرفون بانضباطهم وجديتهم، وتثني عليهم إدارات الجامعات التي يرون فيهم طاقة علمية حقيقية لا يمكن إنكارها.
أما الادعاء بأنهم “يفشلون في دراستهم”، فمجرد مغالطة لا تستند إلى أي معطى علمي. فوزارة التعليم العالي الفرنسية لا تنشر إحصاءات تفصيلية حسب الجنسيات، غير أن بياناتها العامة تظهر أن نسبة النجاح بين طلبة المغرب العربي قريبة جدًا من المعدل الفرنسي، رغم ما يواجهه هؤلاء الطلبة من تحديات إضافية في بداياتهم الجامعية. بل إن الكثير من الطلبة الجزائريين يواصلون دراساتهم العليا بنجاح، ويحصلون على درجات الماجستير والدكتوراه في تخصصات دقيقة، ويشاركون في أبحاث علمية ومشاريع مشتركة داخل كبرى الجامعات الفرنسية.
ويستشهد بعض السياسيين الفرنسيين بنسبة 61 بالمئة من الطلبة الجزائريين الذين بقوا في فرنسا بعد ثماني سنوات من دراستهم، وهي أرقام صادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية، ليقدّموها كدليل على رغبتهم في البقاء. لكن قراءة هذا الرقم خارج سياقه أمر مغرض، لأن هذه النسبة تعكس قبل كل شيء عمق العلاقات التاريخية والثقافية والاجتماعية بين البلدين، إلى جانب وجود شبكة واسعة من الجالية الجزائرية التي تسهّل اندماج الطلبة خلال فترة دراستهم أو بعدها. كما أن جزءًا كبيرًا من هؤلاء الطلبة يعمل في مجالات حيوية تسهم في الاقتصاد الفرنسي، من الصحة إلى التكنولوجيا، ومن التعليم إلى البحث العلمي، دون أن يشكلوا عبئًا على الدولة أو على دافعي الضرائب.
إنّ اليمين المتطرف، الذي يعيش أزمة هوية وسياسة، يبحث عن خصم يحرّك به مخاوف ناخبيه. وبعد أن فشل في استثمار خطاب “الخطر الإسلامي”، وجد في الطالب الجزائري هدفًا سهلاً، شابٌ عربي الملامح، فرنسي اللسان، متفوق في دراسته، ومحبّ للعلم. هكذا يحاول أن يصوّر نجاحه الأكاديمي كتهديد، وتفوّقه العلمي كخطر. في كل مرة يضيق فيها أفق النقاش السياسي، يختار اليمين المتطرف أن يوجّه سهامه نحو الجالية الجزائرية، لأنها تمثل له في الذاكرة الفرنسية رمزية “الآخر” الذي لا يستطيع فهمه ولا التخلص من أثره.
لكنّ هؤلاء الطلبة ليسوا مهاجرين متنكرين كما يُصوَّرون، بل هم سفراء الجزائر في الخارج. جاؤوا إلى فرنسا حاملين معهم ثقافتهم وهويتهم ورغبتهم في التعلّم، لا في الهروب. بعضهم يختار العودة بعد التخرج ليُسهم في بناء وطنه، وبعضهم يبقى لفترة لاكتساب الخبرة أو لإتمام مشاريع علمية، وآخرون يواصلون المساهمة في العلاقات الثنائية من مواقعهم داخل المؤسسات الفرنسية. في كل الحالات، يظلون جزءًا من الجزائر، يحملونها معهم في كل محاضرة، وفي كل بحث، وفي كل نجاح.
إنّ الخطاب اليميني الفرنسي الذي يستهدف الطلبة الجزائريين لا يهاجمهم لأنهم فشلوا، بل لأنهم نجحوا. نجاحهم يربك رواية التفوق الفرنسي القديم، ويُظهر أن أبناء المستعمرات السابقة أصبحوا اليوم شركاء في إنتاج المعرفة، لا متلقين لها. وهذا ما يزعج اليمين المتطرف، لأنه لا يستطيع قبول فكرة أن الجزائري الذي كان يومًا “مستعمَرًا”، بات اليوم يُدرّس في جامعات باريس وليون ويشارك في أبحاث الذكاء الاصطناعي أو في مختبرات الطب النووي.
الجزائر، التي كانت دائمًا منارة فكر ومقاومة، لن تنحني أمام حملات التشويه. وطلبتها في الخارج يواصلون أداء رسالتهم بشرف، يدرسون بجدّ، ويثبتون أن الكفاءة الجزائرية لا تُحدّ بحدود جغرافية. أما الأصوات التي تهاجمهم، فهي لا تمثل سوى خوف فرنسا من مواجهة حقيقتها، أن العالم تغيّر، وأن من كانوا بالأمس طلابًا في جامعاتها، صاروا اليوم جزءًا من نهضتها العلمية.
وهكذا، يبقى الطالب الجزائري رمزًا للذكاء والمثابرة والانتماء، لا عالةً ولا طامعًا. إنه ابن الجزائر، يرفع اسمها في كل قاعة درس وفي كل محفل علمي، يؤمن أن بلاده لا تحتاج لمن يدافع عنها في الخطاب، بل لمن يشرّفها بالفعل. ومن يريد أن يهاجمه اليوم بخطاب الكراهية والعنصرية، فلن يجد فيه إلا وجهًا واثقًا بالعلم، ووطنيًا لا ينسى من أين أتى، ولا لمن ينتمي.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تراجع الطلب الجزائري يرفع مخزون القمح الفرنسي لمستوى قياسي
تشهد فرنسا، أكبر منتج للقمح داخل الاتحاد الأوروبي، تراكمًا غير مسبوق في مخزونها من القمح، …