انتصار للمتعاملين الاقتصاديين… تبون يضع حدًا لسنوات التعطيل والاختناق
انتصارٌ كبيرٌ للمتعاملين الاقتصاديين في الجزائر جاء هذه المرة من أعلى هرم السلطة السياسية، ليضع حدًا لمعاناة طويلة مع العراقيل البنكية والخلط الإداري الذي أنهك المستثمرين ورجال الأعمال والمصنّعين على حد سواء. لقد كان الرئيس عبد المجيد تبون واضحًا وصريحًا حين وجّه تعليماته العلنية أمام الوزير الأول ووزير التجارة الخارجية ورجال الأعمال والمستثمرين قائلاً: “أقولها أمامكم للوزير الأول ووزير التجارة الخارجية.. استيراد المواد الأولية أولوية الأولويات”.
هذه العبارة البسيطة، المقتضبة في ظاهرها، تختصر سنوات من الشكاوى والنداءات والصرخات المكتومة التي ظل يطلقها الصناعيون والمتعاملون الاقتصاديون، بعدما تحول الاستيراد من عملية طبيعية لتأمين المواد الخام الضرورية للإنتاج، إلى كابوس يهدد استمرارية المؤسسات ويعرّض آلاف مناصب الشغل للخطر. إنّها لحظة فاصلة تعلن بوضوح أنّ الدولة قررت أخيرًا أن ترفع الغبن عن أبنائها المتعاملين، وأن تمنح الصناعة الوطنية ما تستحقه من دعم ووضوح في الرؤية.
لقد عاش المتعاملون الاقتصاديون لسنوات في بيئة مشحونة بالارتباك التنظيمي، حيث تعاقبت التعليمات البنكية والمذكرات الوزارية دون أن تستقر على نهج واحد. فمنذ 2017، حين فُرضت على بعض عمليات الاستيراد شروط مشدّدة كإتمام التوطين البنكي قبل 30 يومًا من الشحن وتغطية العملية بنسبة 120% من قيمتها، بدأت أولى ملامح الاختناق. ورغم أنّ هذه الإجراءات أُلغيت لاحقًا، إلا أنّ أثرها ظل ماثلًا في عقلية البنوك التي تعاملت مع المستوردين بحذر زائد، وأحيانًا بعقلية “المنع بدل التيسير”، فصار المستثمر يعاني من تعقيدات بنكية تطيل آجال معالجة ملفاته وتجعله رهينة توقيع موظف أو ختم إداري. هذه الممارسات زادت من شعور الصناعيين بأنّهم محاصرون بين رغبة الدولة المعلنة في تشجيع الإنتاج، وبين واقع يومي يتسم بالبيروقراطية والجمود.
ثم جاء العام 2025 ليكشف هشاشة المنظومة أكثر، حين فُرض “البرنامج التقديري للاستيراد” كشرط أساسي لإتمام التوطين البنكي. كان الهدف المعلن من الإجراء نبيلًا: إعطاء الدولة صورة أوضح عن حاجيات السوق من المواد الأولية وتقدير حجم الطلب على العملة الصعبة. غير أن التطبيق جاء صادمًا، إذ تعطلت مئات الشحنات في الموانئ والمطارات لأنّ أصحابها لم يتمكنوا من استكمال الوثائق في الوقت المحدد، أو لأنّ البنوك رفضت المضيّ في التوطين دون تأشيرات مسبقة من وزارة التجارة. وهكذا، تحولت المواد الأولية التي هي عصب كل عملية إنتاجية إلى رهائن في المخازن الجمركية، فيما كان عمال المصانع يواجهون خطر البطالة المؤقتة، وكانت المؤسسات تدفع مبالغ ضخمة مقابل التخزين والتأخير. لقد كان مشهدًا صريحًا لما يعنيه “الاختناق الإداري”، وأبرز مثال على كيف يمكن لإجراء تنظيمي غير مدروس أن يعطل الإنتاج الوطني بأكمله.
لكن الأمر لا يتوقف عند حدود العراقيل البنكية والجمركية، بل يتجاوزها إلى لبس كبير في النظرة الرسمية إلى أدوار المتعاملين. لقد سمعنا على مدى سنوات عديدة مسؤولين تعاقبوا على وزارة التجارة يطالبون المستورد بأن يتحوّل إلى مصنع!، وكأنّ الاستيراد نشاط ثانوي أو غير مشروع يجب استبداله فورًا بالتصنيع. هذا التشويش في تحديد طبيعة كل نشاط كان مصدرًا إضافيًا للغبن الذي شعر به المتعاملون الاقتصاديون. فالمستورد يمارس مهنة تجارية بحتة، تخضع لوزارة التجارة، وهو يوفّر المواد الأولية والمعدات التي تحتاجها السوق الوطنية، في حين أنّ المصنع مهنة أخرى قائمة بذاتها، تخضع لوزارة الصناعة، وتستند إلى الاستثمار والإنتاج المحلي. أن يطلب مسؤول من مستورد أن يصبح مصنعًا هو كأن يطلب من الموزع أن يتحوّل إلى منتج، أو من التاجر أن يصبح صانعًا. هذه ازدواجية غير واقعية، لأنّ الاقتصاد الوطني يحتاج إلى الاثنين معًا، المستورد الذي يضمن تدفق المواد الخام والتجهيزات، والمصنّع الذي يحولها إلى قيمة مضافة وسلع وخدمات. إنّ عدم التمييز بين الدورين ساهم في تشويه العلاقة بين المتعاملين والدولة، وزاد من الضغط على فئات بأكملها دون أن يحقق أي جدوى اقتصادية حقيقية.
وفي ظل هذه الفوضى المفاهيمية، ومع استمرار البنوك في تشديد قبضتها على ملفات التوطين، بات المستثمر الجزائري يشعر أنّه يشتغل في بيئة “لا يقين” تنظيمي، حيث يمكن أن تُغيَّر القواعد في أي لحظة، وأن تتوقف شحناته في أي ميناء بسبب تعليمة لم يُبلّغ بها. ومع مرور الوقت، تراجعت ثقة المورّدين الأجانب، وصارت المؤسسات الجزائرية تدفع أثمانًا إضافية لتأمين طلبياتها بسبب “مخاطر السوق الجزائرية”. لقد كانت هذه مؤشرات خطيرة على مناخ الاستثمار، ليس فقط بالنسبة للمتعامل المحلي، بل أيضًا للمستثمر الأجنبي الذي يتابع تفاصيل البيئة التنظيمية قبل أن يقرر ضخ أمواله في بلد ما.
كل هذه المعطيات جعلت كلمة الرئيس تبون ذات وقع خاص، فهي لم تكن مجرد تصريح عابر، بل إعلان رسمي عن إرادة سياسية واضحة لإصلاح الخلل ورفع الغبن. عندما يضع الرئيس استيراد المواد الأولية في مصاف “أولوية الأولويات”، فإنّه لا يوجّه البنوك والجمارك ووزارة التجارة فحسب، بل يرسل رسالة تطمين للمستثمرين داخل وخارج الجزائر بأنّ الدولة حريصة على استمرارية الإنتاج ولن تسمح بإعادة سيناريوهات التعطيل. إنها لحظة تحوّل تضع نهاية لزمن الضبابية وتؤسس لعهد جديد يكون فيه المستثمر شريكًا فعليًا في التنمية، لا متهمًا عليه أن يبرر دوره باستمرار.
لكن الانتصار لا يكتمل بالخطاب وحده، بل يحتاج إلى ترجمة عملية في الميدان. إنّ المتعاملين الاقتصاديين ينتظرون الآن أن يروا تغييرًا ملموسًا في طريقة عمل البنوك، بأن تختصر آجال التوطين من أسابيع إلى أيام، وأن تلتزم بمسار رقمي موحّد يتيح للمستورد أو المصنع متابعة ملفه لحظة بلحظة. كما أنّهم يتطلعون إلى إنشاء قائمة خضراء بالمواد الأولية الأساسية تمر عبر ممر سريع يضمن وصولها إلى المصانع دون تعطيل، وإلى دليل رسمي واحد يضع حدًا للاجتهادات المتناقضة بين بنك وآخر أو بين موظف وآخر. هذه الإجراءات وحدها ستجعل من قرار الرئيس أكثر من انتصار رمزي، وستحوّله إلى مكسب حقيقي على الأرض.
لقد تحمّل المتعاملون الاقتصاديون سنوات طويلة من الغبن والاختناق، ودفعوا ثمن بيروقراطية عطّلت عجلة الإنتاج وحرمت الاقتصاد من فرص نمو هائلة. واليوم، بفضل هذا الموقف الرئاسي الحاسم، استعادوا الأمل في أنّ الجزائر مقبلة على مرحلة جديدة، حيث يُفصل بوضوح بين مهام المستورد ودور المصنع، وحيث يُرفع التعطيل البنكي والإداري عن المواد الأولية، وحيث تتحول الثقة السياسية إلى بيئة عملية جاذبة للاستثمار. إنّها ببساطة بداية زمن الانتصار للمتعاملين، ونهاية زمن الغبن والخلط والاختناق.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …