باريس تختبر صبر الجزائر… من جديد!
تمر العلاقات الجزائرية-الفرنسية اليوم بمنعطف حاد ومفتوح على احتمالات تصعيدية متعددة، تكشف عن تحولات أعمق في موازين القوى الإقليمية والدولية، وتؤشر إلى نهاية مرحلة كانت فيها العلاقات الثنائية محكومة بما تبقى من رواسب التاريخ الاستعماري، وما تولد عنها من معادلات غير متوازنة في ملفات الهجرة، والتأشيرات، والتعاون القنصلي، والتبادل الثقافي، والتواجد الدبلوماسي المتبادل. الرسالة التي بعث بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى رئيس وزرائه فرانسوا بايرو، والتي نُشرت عبر وسائل إعلام فرنسية، مثّلت نقطة مفصلية في هذا المسار، لا لكونها جاءت بتصعيد غير مسبوق فقط، بل لأنها مثلت، في الشكل والمضمون، استعراضاً لقراءة فرنسية رسمية ترى نفسها “ضحية” انسداد سياسي ودبلوماسي تتحمل الجزائر مسؤوليته الكاملة، وتبرئ الجانب الفرنسي من أي إخلال أو استفزاز سابق.
ماكرون، عبر رسالته، أعلن بشكل صريح عزمه على “تعليق رسمي” للاتفاق الثنائي الموقع سنة 2013 مع الجزائر، والذي يضمن إعفاءات من التأشيرة لحاملي الجوازات الرسمية والدبلوماسية. وذهب إلى أبعد من ذلك حين دعا إلى استخدام فوري لنصوص قانون الهجرة لسنة 2024، التي تسمح بمنع تأشيرات قصيرة أو طويلة الأمد ليس فقط لحاملي الجوازات الرسمية، بل أيضاً لكافة طالبي الإقامة من الجنسيات المعنية، وهو ما يُفهم منه أن فرنسا بصدد بناء مقاربة جديدة عنوانها: “العصا أولاً، ثم الحوار”. هذه اللهجة الحازمة، وإن وُظّفت في إطار الرد على ما سماه ماكرون “مساساً بالوحدة الوطنية الفرنسية” في إشارة إلى اعتقال الكاتب الجزائري-الفرنسي بوعلام صنصال والصحفي كريستوف غليز، إلا أنها تعكس توجهاً أعمق نحو مراجعة كاملة للعلاقة الثنائية، وإعادة ضبطها انطلاقاً من قواعد جديدة قوامها ما تسميه باريس بـ”الندية والاحترام المتبادل”، لكن في واقع الأمر، تكشف عن أزمة توازن في الرؤية، إذ تحاول فرنسا فرض واقع لا يعكس حقيقة تطور الموقع الجيوسياسي الجزائري، ولا مزاجه السياسي الداخلي.
في المقابل، جاء بيان وزارة الخارجية الجزائرية حاسماً في لغته، صلباً في مضمونه، دقيقاً في ردوده، ومشحوناً بسردية قانونية وسياسية تتهم باريس بأنها هي من خرقت، وليس العكس، حزمة من الاتفاقيات الثنائية التي نظّمت العلاقة بين البلدين لعقود. ففرنسا – بحسب الرواية الجزائرية الرسمية – لم تخرق فقط الاتفاق القنصلي لسنة 1974، ولا اتفاق 2013 محل الجدل، بل خرقت أيضاً اتفاق 1968 المتعلق بحرية تنقل وإقامة وتشغيل المواطنين الجزائريين بفرنسا، وهو أحد أعمدة العلاقة الثنائية، إلى جانب تنكرها لروح الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لسنة 1950، حين عمدت إلى ترحيل جزائريين بقرارات تعسفية، دون تمكينهم من حق الدفاع أو الطعن القانوني، ودون إخطار البعثات القنصلية الجزائرية، ما اعتبرته الجزائر مساساً بواجب الحماية القنصلية، وخرقاً لمبدأ السيادة الثنائية في معالجة الملفات الإنسانية والقانونية.
البيان الجزائري لم يكتف بالرد القانوني بل تجاوز ذلك إلى تفكيك الموقف الفرنسي نفسه. فقد أكدت الجزائر أن مبادرة إعفاء الجوازات الدبلوماسية من التأشيرة لم تكن طلباً جزائرياً أصلاً، بل جاءت بإلحاح فرنسي متكرر في أكثر من مرحلة، وها هي باريس تعلّق الاتفاق الذي كانت صاحبة فكرته، متصورة أنها بذلك تمارس ضغطاً سيادياً، في حين ترى الجزائر أنها حصلت من هذا التعليق على “فرصة مناسبة” لإعلان نقض الاتفاق من جانبها بشكل رسمي. كما أوضح البيان أن الجزائر ستخضع من الآن فصاعداً كافة طالبي التأشيرات الفرنسيين، بما فيهم حاملو الجوازات الدبلوماسية، لنفس المعايير التي تفرضها فرنسا على الجزائريين، وهو ما يعني، ضمناً، الدخول في مرحلة صارمة من المعاملة بالمثل، دون استثناءات أو مرونة دبلوماسية.
الأزمة مرشحة للتفاقم، لأن جوهرها لم يعد محصوراً في ملفات تقنية قابلة للتفاوض، بل تمددت إلى فضاء رمزي وثقافي، حملته قضية اعتقال صنصال وغليز، حيث ترى باريس أن حريتهما تمثل قضية مبدأ، فيما تعتبر الجزائر أن فرنسا تتدخل في شؤونها الداخلية، وتتخذ من حرية التعبير غطاءً لحماية شخصيات خالفت قوانين محلية أو تورطت في ملفات أمنية. والأخطر من كل ذلك، أن القنوات الخلفية التي عادة ما تكون صمام أمان في مثل هذه الأزمات، تبدو معطلة حالياً، وهو ما يمكن قراءته من اختيار الطرفين كشف كل أوراق النزاع في بيانات علنية، ورسائل رسمية منشورة، وتوجيه اتهامات مباشرة عبر الإعلام، مما يعني أن هناك رغبة ضمنية في تسجيل النقاط أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، أكثر من البحث عن حلول هادئة خلف الأبواب المغلقة.
الشق المتعلق باعتماد القناصل يفتح جبهة إضافية في هذا النزاع، إذ كشفت الجزائر أنها منذ أكثر من سنتين كانت تنتظر اعتماد قناصلها في فرنسا، ومن بينهم ثلاثة قناصل عامين وخمسة قناصل فرعيين، بينما كانت باريس ترفض منح هذه الاعتمادات دون مبررات واضحة، ما اعتبرته الجزائر سلوكاً عدائياً دفعها إلى الرد بالمثل، في إطار احترام مبدأ السيادة المتبادلة. في هذا الإطار، تشير الجزائر إلى أنها أبلغت باريس رسمياً أنها ستظل متمسكة بموقفها طالما استمرت العراقيل الفرنسية، معتبرة أن فرنسا تسعى إلى فرض أعراف دبلوماسية أحادية الاتجاه، في حين أن العلاقات الدبلوماسية يجب أن تُدار وفق مبدأ الندية والتكافؤ، لا على قاعدة التوجيه والإملاء.
اللافت أن بيان الجزائر ختم بملاحظة سياسية ذكية، حين أشار إلى أن فرنسا قدّمت قائمة بالخلافات الثنائية التي تقترح العمل على تسويتها، وأن الجزائر من جهتها تعتزم أيضاً طرح قائمة خاصة بها من الخلافات لم تُطرح بعد، ما يفهم منه أن الجزائر لا ترى في فرنسا طرفاً صاحب مطالب فقط، بل تعتبر نفسها شريكاً متضرراً بدوره، له قائمة من الانشغالات والملفات العالقة التي تستوجب المعالجة وفق منطق متوازن. وهو تلميح ذكي إلى أن الجزائر لا تعترف بأن باريس وحدها من يضع جدول النزاعات، بل تملك هي الأخرى أجندتها التي قد تصبح قريباً محل نقاش، أو حتى تصعيد مقابل، إذا ما استمرت سياسة الضغوط الفرنسية الحالية.
ما نشهده بين باريس والجزائر ليس مجرد خلاف عابر، بل هو انعكاس لتحولات دولية أعمق، تُخرج العلاقة من عباءة “الخصوصية التاريخية” إلى صراع مفتوح حول من يملك القرار، ومن يفرض شروط التعاون، ومن يعيد تعريف حدود السيادة في عالم ما بعد الاستعمار، حيث لم يعد التوازن مبنياً على النفوذ الرمزي والذاكرة المشتركة، بل على مصالح واقعية وقوة تفاوضية متبادلة. وما لم تتوفر إرادة سياسية حقيقية لدى الطرفين لإعادة ترميم جسور الثقة من داخل المؤسسات لا عبر التصريحات، فإن الأزمة ستظل مفتوحة على احتمالات أكثر حدة، قد تنعكس سلباً على الجالية، وعلى التبادلات الاقتصادية، وعلى صورة البلدين داخل الاتحاد الأوروبي والعالم المتوسطي ككل.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…