‫الرئيسية‬ الأولى بعد سنوات الامتياز…كيف تتأقلم الشركات الفرنسية في الجزائر؟

بعد سنوات الامتياز…كيف تتأقلم الشركات الفرنسية في الجزائر؟

بعد سنوات الامتياز…كيف تتأقلم الشركات الفرنسية في الجزائر؟
تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية خلال السنوات الأخيرة تذبذبًا ملحوظًا، لا سيما على الصعيد السياسي والدبلوماسي، بفعل تعقيدات تاريخية متجذرة وأزمات متكررة بشأن الذاكرة الاستعمارية والهجرة والتعاون الأمني. غير أن ما يميز المرحلة الراهنة هو انتقال هذا التوتر من مستوى الخطاب السياسي والإعلامي إلى مستوى التأثير غير المباشر على المجال الاقتصادي، حيث بدأت تظهر إشارات واضحة على برود العلاقات بين المؤسسات الاقتصادية في البلدين، رغم محاولات الفصل التقليدية بين السياسة والاقتصاد.

ففي تقرير نشرته المديرية العامة للخزينة الفرنسية سنة 2025، سُجّل لأول مرة منذ ثلاث سنوات متتالية من النمو، تراجع في حجم المبادلات التجارية بين فرنسا والجزائر بنسبة 4.3%، ليصل مجموع التبادلات إلى 11.1 مليار يورو. وعلى الرغم من أن التراجع الظاهر في الأرقام يُعزى جزئيًا إلى انخفاض أسعار المحروقات، ما قلّص من قيمة الصادرات الجزائرية إلى فرنسا، فإن ذلك لا ينفي وجود عامل سياسي مرافق لهذا المنحى، يتمثل في فتور العلاقات وغياب ديناميكية التفاوض والاستثمار بين الطرفين.

ويعود آخر مؤشر سياسي دال إلى شهر أفريل 2025، حين أعلن مجلس تجديد الاقتصاد الجزائري (CREA) إلغاء لقاء كان مرتقبًا مع الاتحاد الفرنسي لأرباب العمل (MEDEF) في باريس، رغم أن لقاءً مماثلًا جمع الطرفين قبل عام فقط في العاصمة الفرنسية، تناول فرص الشراكة الاقتصادية وتأسيس مجلس أعمال دائم بين البلدين. الإلغاء لم يكن خطوة عفوية أو تقنية، بل يُقرأ كرسالة واضحة من الطرف الجزائري مفادها أن التعاون الاقتصادي لم يعد معزولًا عن مواقف فرنسا السياسية تجاه الجزائر، خاصة في ظل تصريحات من مسؤولين فرنسيين أثارت امتعاض الجزائر رسميًا وشعبيًا.

على أرض الواقع، لا تزال الشركات الفرنسية حاضرة بقوة في السوق الجزائرية، لكن حضورها أصبح محل مراجعة، سواء من السلطات العمومية أو من الشارع الاقتصادي المحلي. فشركات مثل “سانوفي” في قطاع الأدوية، و”رونو” في صناعة السيارات، و”أورانج” في الاتصالات، و”توترال إينيرجي” في الطاقة، تجد نفسها اليوم مضطرة لإعادة صياغة استراتيجياتها في الجزائر وفق متغيرات جديدة، تتعلق بإصرار الجزائر على نقل التكنولوجيا، وتعميق التصنيع المحلي، والحد من نزيف العملة الصعبة.

وهنا تكمن مفارقة حقيقية: ففي الوقت الذي تعاني فيه فرنسا من فقدان تدريجي لنفوذها في السوق الجزائرية، تفتح الجزائر أبوابها بقوة أمام شركاء جدد، خصوصًا من الصين، تركيا، روسيا وإيطاليا. ففي عام 2023 وحده، تضاعفت الاستثمارات التركية المباشرة في الجزائر في قطاعات النسيج والصناعة الغذائية والطاقة الشمسية، بينما وسّعت الصين من مشاريع البنية التحتية، أبرزها ميناء الحمدانية ومصانع الإسمنت ومركبات الطاقة المتجددة. أما إيطاليا، فتمكّنت من أن تصبح الشريك الطاقوي الأول للجزائر في مجال الغاز، بعد اتفاقيات استراتيجية وقعتها شركة “إيني” الإيطالية مع سوناطراك، عقب أزمة الطاقة في أوروبا إثر الحرب في أوكرانيا.

هذا التوجه الجزائري نحو تنويع الشركاء الاقتصاديين لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة سياسية مدروسة تنسجم مع رؤية الجزائر لما بعد “الهيمنة الفرنسية الاقتصادية”، والتي كانت في الماضي شبه حصرية في قطاعات التعليم، الصحة، الطاقة، والتمويل. وقد عبر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مرارًا عن هذا التوجه، معلنًا في أكثر من مناسبة أن “الجزائر الجديدة تريد شركاء لا أوصياء”.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى معضلة عدم توازن المصالح التي طالما طبعت العلاقات الاقتصادية الفرنسية الجزائرية. فعلى الرغم من أن الجزائر كانت، لعقود، من أهم زبائن فرنسا في إفريقيا، إلا أن الميزان التجاري كان دائمًا يميل لصالح باريس، في وقت كانت فيه الاستثمارات الفرنسية داخل الجزائر لا تتعدى 2 مليار يورو، وهو رقم متواضع مقارنة بحجم التبادل التجاري والمصالح التاريخية.

التأثير الحقيقي للأزمة الدبلوماسية على الاقتصاد لا يُقاس فقط بالأرقام الجافة، بل بانخفاض منسوب الثقة، وتجميد مشاريع استثمارية كان من المفترض أن تُفعّل، وبفتور اللقاءات الثنائية عالية المستوى. وفي هذا الصدد، يُسجَّل أن العديد من الوفود الاقتصادية الفرنسية التي كانت تخطط لزيارات إلى الجزائر، لم تتحصل على الترخيص أو فُرضت عليها شروط جديدة تتماشى مع القانون الجزائري للاستثمار الذي دخل حيّز التنفيذ في عام 2022، والذي يشترط نسب شراكة أكثر إنصافًا للدولة الجزائرية ويمنح الأولوية للمناولة المحلية.

من جانبها، لم تبدِ الحكومة الفرنسية مرونة كافية لتدارك هذا التآكل في العلاقات الاقتصادية. ففي حين تنتهج دول أخرى سياسة “البراغماتية الصامتة” مع الجزائر، لا تزال فرنسا رهينة تعقيدات خطابها السياسي، حيث تستمر بعض وسائل الإعلام الفرنسية في استخدام نبرة فوقية أو استشراقية تجاه الجزائر، مما يُفسد جوّ الأعمال حتى قبل أن تبدأ المشاريع. والأمثلة كثيرة، آخرها الجدل حول معاشات المتقاعدين الجزائريين المقيمين في الجزائر، والذي فُتح إعلاميًا بطريقة أعادت إلى الواجهة خطاب الريبة والتشكيك.

إن مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا رهين بتغيّر في العمق، لا يتعلق فقط بتعديل الأطر القانونية أو التجارية، بل بتصحيح الرؤية السياسية الفرنسية تجاه الجزائر كدولة ذات سيادة، وليس فقط سوقًا تقليدية أو امتدادًا لما بعد الاستعمار. الشركات الفرنسية، التي لا تزال تحتفظ بسمعة مهنية في قطاعات عديدة، مدعوة اليوم لفهم هذا التحول والتكيف معه، لأن استمرارها في السوق الجزائرية لم يعد مضمونًا بفضل “التاريخ المشترك”، بل مرهون بقدرتها على تقديم قيمة مضافة حقيقية تتماشى مع تطلعات الدولة الجزائرية والمجتمع المحلي.

وفي المحصلة، تبدو العلاقة الاقتصادية بين البلدين في مرحلة “إعادة صياغة”، حيث لم تعد الأولوية للعلاقات الرمزية، بل للمصالح المتبادلة وفق منطق الندية والاحترام. وإذا لم تبادر فرنسا إلى تكييف خطابها وسلوكها السياسي والاقتصادي مع هذه المعادلة الجديدة، فإنها قد تجد نفسها، في غضون سنوات قليلة، في موقع المتفرج على تحوّل الجزائر إلى قطب اقتصادي إقليمي بلا حاجة إلى شراكتها.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…