بلغيث وصنصال… وجهان لحرب واحدة ضد الجزائر
لم يكن الحكم القضائي الصادر ضد كلّ من المؤرخ محمد الأمين بلغيث والكاتب بوعلام صنصال حدثًا عابرًا في سجل القضاء الجزائري، بل حمل في طياته رسائل قانونية وسياسية وأمنية تعبّر بوضوح عن حساسية المرحلة التي تمر بها البلاد، وعن طبيعة التحديات التي تواجهها الدولة في ظل التحولات الإقليمية والدولية.
ففي أقل من أسبوع، نطقت محاكم الجزائر بأحكام مشددة تقضي بسجن الرجلين خمس سنوات حبسا نافذاً، مع تغريم كل واحد منهما بـ500 ألف دينار. الأحكام جاءت في قضايا منفصلة، ولكنها تتقاطع في الجوهر، التصريحات والمواقف التي صدرت عنهما، واعتبرتها العدالة الجزائرية، تهديدًا مباشرًا للوحدة الوطنية ومساسًا بمؤسسات الدولة.
محمد الأمين بلغيث، أستاذ التاريخ والمفكر المعروف، أُدين بسبب تصريحات أدلى بها في مقابلة تلفزيونية على قناة أجنبية، اعتُبرت مسيئة للثوابت الوطنية وتشكل خطرًا على وحدة البلاد الرمزية والتاريخية. أما بوعلام صنصال، الكاتب الجزائري المثير للجدل، فقد وُجهت له تهم أثقل، من بينها المساس بالوحدة الوطنية، إهانة هيئة نظامية، نشر أخبار كاذبة، حيازة مواد رقمية تُهدد الأمن العام، فضلًا عن مراسلات موجهة لسفارة أجنبية تضم عبارات مهينة تجاه مؤسسات الدولة.
ورغم أن خلفية كل منهما تختلف — بلغيث أستاذ جامعي ومؤرخ نشط في الإعلام، وصنصال كاتب فرنكوفوني ارتبط اسمه مرارًا بتصريحات مثيرة في الصحافة الأجنبية — إلا أن مخرجات القضيتين جاءت متشابهة، ما دفع إلى قراءة متأنية في طبيعة هذه الأحكام، وفي السياق الذي جعل العدالة تتعامل معها بصرامة لافتة.
من البديهي أن حرية التعبير في الجزائر، كما في أغلب دساتير الدول، مكفولة ومحمية. غير أن هذه الحرية، كما ينصّ عليها الدستور الجزائري، تظلّ مقيّدة بجملة من الضوابط، أبرزها عدم المساس بالوحدة الوطنية، واحترام مؤسسات الدولة، وعدم الترويج للكراهية أو التضليل الإعلامي.
في كلا الملفين، استندت الجهات القضائية إلى نصوص قانونية واضحة ضمن قانون العقوبات، لا سيما ما يتعلق بالمواد المرتبطة بالأمن العام، التحريض، خطاب الكراهية، والمساس بهيبة مؤسسات الجمهورية. وبالتالي، لم تتعامل العدالة مع القضية من منطلق فكري أو سياسي، بل اعتمدت على المخرجات الإعلامية والمحتوى الصريح الذي تم الإدلاء به علنًا — داخل الجزائر أو خارجها — وقيّمته على أساس الأثر لا النية، والنتيجة لا الانطباع.
لفهم الخلفية الأعمق لهذه الأحكام، لا بد من التوقف عند طبيعة البيئة الاستراتيجية التي تواجهها الجزائر حاليًا. لقد أصبحت البلاد، منذ سنوات، في مرمى ما يُعرف بالحروب الهجينة أو “حروب الجيل الرابع والخامس”، وهي حروب لا تعتمد على الدبابات والطائرات، بل على الكلمة، والصورة، والخطاب، والمعلومة الموجهة.
في هذا النوع من الحروب، يُستخدم الإعلام كسلاح، والرأي الفردي كمادة خام، والخطابات الانفعالية كقذائف ناعمة. وتصبح الشخصيات العامة — سواء كانت أكاديمية أو ثقافية أو سياسية — أهدافًا أو أدوات تُستعمل في معارك “القوة الناعمة” التي تسعى لتفكيك المجتمعات من الداخل، وضرب الثقة بين الشعوب ومؤسساتها.
وهنا تبرز خطورة ما صدر عن بلغيث وصنصال، حتى وإن جاءت تصريحات أحدهما بدافع النقد الأكاديمي أو الآخر من باب حرية الرأي. ففي لحظة إقليمية معقّدة، وفي ظل تصاعد الهجمات الإعلامية على الجزائر من عدة واجهات — من باريس إلى الامارات، ومن الرباط إلى تل أبيب — تصبح كل كلمة محسوبة، وكل تصريح له وزنه السياسي والأمني.
لا يختلف اثنان في أن ما قاله الرجلان، سواء بوعي أو عن جهل بعواقبه، قد تم استغلاله في الفضاء الإعلامي الدولي من قبل جهات معادية للجزائر. فقد تحوّلت المقابلات والمقالات والتصريحات إلى مواد دعائية على ألسنة محللين وصحف ومواقع مشبوهة، تستخدمها لترويج سرديات مضادة لمصالح الدولة الجزائرية.
من فرنسا، التي ما زالت دوائر معينة فيها تنظر إلى الجزائر بمنطق استعماري مبطن، إلى الإمارات التي تتقاطع مصالحها مع مراكز ضغط إعلامية متحاملة، مرورًا بـالمخزن المغربي المعروف بتحركاته العدائية في المنطقة، ووصولًا إلى الكيان الصهيوني، الذي لا يخفي رغبته في زعزعة استقرار شمال إفريقيا… كلها قوى تقتنص الفرصة لتوظيف “أصوات داخلية” في تمرير مشاريعها المعادية للوحدة الوطنية والسيادة الجزائرية.
في ظل هذا المناخ، جاءت الأحكام القضائية بمثابة رسالة واضحة بأن العدالة الجزائرية لا تتساهل مع أي فعل قد يُستغل في تهديد الأمن الوطني، وأن لا أحد فوق القانون، مهما كانت مكانته الفكرية أو حضوره الإعلامي. وتُظهر الأحكام أيضًا أن الدولة الجزائرية قررت وضع حدّ نهائي لاستغلال منابر إعلامية أجنبية في تصدير خطابات مغرضة تلبس ثوب النقد، لكنها تساهم في ضرب الأسس السيادية، وتُستخدم في سياقات عدائية.
من هذا المنطلق، فإن القضاء لم يحاكم الأفكار، بل حاكم الأفعال المحددة، بناءً على دلائل مادية، ومحاضر قانونية، وضمانات محاكمة عادلة بحضور هيئة الدفاع. وتم التعامل مع الملفين وفقًا لمبدأ سيادة القانون، لا منطق الحسابات السياسية أو المزايدات الإعلامية. إذا كانت حرية التعبير مكفولة، فإن المسؤولية الوطنية جزء لا يتجزأ منها. وفي زمن التحديات المعقدة، لا يمكن فصل الرأي عن أثره، ولا اعتبار الكلمة مجرد موقف شخصي في ظل ما قد تُحدثه من تداعيات في الداخل والخارج.
الخطاب مسؤولية. والمفكر أو الكاتب أو الأكاديمي، حين يتحدث، لا يمثل نفسه فقط، بل يتحول إلى مصدر قد تُعاد صياغته وتوظيفه خارج سياقه، وهو ما حصل فعلًا في القضيتين المعروضتين.
تُظهر الأحكام الصادرة ضد محمد الأمين بلغيث وبوعلام صنصال أن الجزائر تخوض معركة وعي بوسائل قانونية، وتحمي وحدتها وتماسكها بآليات دستورية، بعيدًا عن منطق القمع أو التصفيات الرمزية. وإذا كانت هذه الأحكام قد أثارت بعض الجدل، فإن خلفياتها تكشف عن وعي رسمي بأبعاد الحروب الحديثة، وعن حرص الدولة على فرض سلطة القانون في وجه كل من يحاول، عن قصد أو بغير قصد، فتح ثغرات في جدار السيادة الوطنية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…