بوريطة يستجدي موسكو لمواجهة الجزائر في الساحل!
يثبت وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أنه لا يتقن سوى سياسة الوهم والمناورات الفارغة، في محاولاته المستمرة للظهور بمظهر “الفاعل الإقليمي الكبير” الذي يُحسب له حساب في ملفات إفريقيا والساحل. زيارة بوريطة الأخيرة إلى موسكو، منتصف أكتوبر 2025، والتي حاول تسويقها كـ«فتح دبلوماسي» جديد، لم تكن في حقيقتها سوى مشهد إضافي في مسلسل الدبلوماسية المرتبكة التي يتخبط فيها المخزن منذ أن فقد بوصلته في القارة الإفريقية، بعد أن أغلقت أمامه عواصم الساحل أبوابها واختارت الجزائر شريكًا استراتيجيًا موثوقًا لبناء مرحلة جديدة من الاستقلال والسيادة الحقيقية.
في لقائه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حاول بوريطة تقديم نفسه على أنه المدافع عن “سيادة دول الساحل” و”تحررها من الوصاية”، في خطابٍ يزعم الحرص على استقلالها، بينما يعلم الجميع أن بلاده كانت لسنوات الذراع الدبلوماسية للمصالح الفرنسية في المنطقة، وأنها ما تزال تراهن على بقايا النفوذ الغربي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. خلف الكلمات المنمقة عن “التعاون الإفريقي” و”التكامل الإقليمي”، كان هدف بوريطة واضحًا، جرّ روسيا إلى موقف يُضعف الجزائر ويُقوّي موقف المغرب في معركته الخاسرة حول الصحراء الغربية.
لكن ما لم يدركه هذا الوزير المتسرّع أن موسكو ليست باريس، وأن الروس لا يغامرون بتحالفات مجانية. فروسيا، التي ترى في الجزائر حليفًا استراتيجيًا ثابتًا منذ عقود، شريكًا عسكريًا واقتصاديًا موثوقًا، لن تفرّط في هذا الرصيد لصالح بلدٍ لا تربطه بالمنطقة لا حدود جغرافية ولا مصالح استراتيجية حقيقية. فالجزائر هي من تملك آلاف الكيلومترات من الحدود المشتركة مع مالي والنيجر، وهي من تحتضن قبائل تمتد جذورها عبر الحدود، تربطها وشائج الدم والتاريخ والثقافة، بينما المغرب لا يملك سوى وهم “النفوذ الافتراضي” الذي يروّج له إعلامه الموجّه.
لقد حاول بوريطة أن يوهم الروس بأن النفوذ الجزائري في الساحل هو شكلٌ من “الوصاية” أو “الهيمنة”، متناسياً أن الجزائر كانت أول من دعم حركات التحرر في إفريقيا، وقدّمت دماء أبنائها وسلاحها لتحرير القارة من الاستعمار الذي يريد المخزن أن ينوب عنه اليوم. المفارقة المضحكة أن الوزير المغربي الذي يزعم محاربة الوصاية هو ذاته الذي يهرول وراء الغرب في كل أزمة، يطلب الدعم والتمويل، ويقدّم التنازلات السياسية مقابل وعودٍ لا تتحقق.
أما الحديث عن “تحالف مغربي روسي ضد النفوذ الجزائري”، فليس سوى نكتة دبلوماسية، لأن موسكو التي تعرف موقعها من الجزائر لا يمكن أن تنساق خلف مغامرات بوريطة الطائشة. الروس يدركون أن الجزائر هي ركيزة الأمن في الساحل، وهي الشريك الوحيد القادر على مخاطبة حكومات باماكو ونيامي وواغادوغو بثقة وندية، لا بمنطق المصلحة الضيقة أو الطموح الإمبراطوري، بل بروح الجوار والأخوة التاريخية.
في المقابل، تواجه الدبلوماسية المغربية عزلة متزايدة في إفريقيا. بعد أن طردت النيجر ضباطًا مغاربة كانوا يعملون تحت غطاء “التعاون الأمني”، واتضح أنهم ينقلون تقارير لصالح أجهزة استخبارات غربية، بدأت ملامح السقوط الأخلاقي والسياسي للنفوذ المغربي تتضح يوماً بعد يوم. لم تعد دول الساحل تنظر إلى الرباط كشريك، بل كامتدادٍ لسياسات استعمارية قديمة تحاول العودة بثوبٍ جديد.
لقد قدّم بوريطة في موسكو مشهدًا يجمع بين السذاجة السياسية والتناقض الدبلوماسي. فمن جهة، يطالب الروس بدعم خطة الحكم الذاتي في الصحراء الغربية، ومن جهة أخرى يحاول إقناعهم بمحاربة “النفوذ الجزائري” الذي هو في الحقيقة الحضور الطبيعي لدولةٍ تتقاسم مع دول الساحل الجغرافيا والتاريخ والدم. ومن المضحك أن يتحدث وزير بلدٍ لا يملك حدودًا مع مالي والنيجر عن النفوذ في منطقة لا يعرف تضاريسها ولا لغاتها ولا شعوبها.
وإذا كان المخزن يظن أن اللعب على التناقضات بين موسكو والغرب قد يمنحه ورقة ضغط على الجزائر، فهو واهم. فروسيا اليوم تُدرك تمامًا أن الجزائر ليست مجرد دولة شريكة، بل بوابة حقيقية لإفريقيا، وركيزة أساسية في أي توازن استراتيجي بالمنطقة. كما تدرك أن أي محاولة للمساس بعلاقاتها مع الجزائر ستكون مقامرة خاسرة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
خطاب بوريطة في موسكو لم يُقنع أحدًا، بل كشف حجم العزلة التي يعيشها النظام المغربي بعد أن فقد ثقته في محيطه العربي والإفريقي. وحتى وإن نجح في التقاط صورة مع لافروف، فإن الصورة لا تصنع تحالفًا، ولا تغير ميزان القوى. فالعلاقات تُبنى بالمواقف لا بالتصريحات، وبالمبادئ لا بالمناورات الإعلامية.
يبقى المشهد واضحًا، الجزائر تمضي بثبات نحو بناء شراكات إفريقية حقيقية قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة المشتركة، بينما يواصل المغرب الانحدار في مستنقع الأوهام، يبحث عن تحالفٍ جديد كلما فشل في السابق، متناسيًا أن الجغرافيا لا تُزوّر، وأن من لا يملك جذورًا في الأرض لا يمكنه أن يفرض نفسه في التاريخ. إن ما قام به بوريطة ليس دبلوماسية، بل تهوّر سياسي يُضاف إلى سجلّ الأخطاء التي جعلت من المغرب أداة صغيرة في لعبة كبرى لا يدرك حتى قواعدها. موسكو لن تكون عصًا يضرب بها المخزن الجزائر، لأن الجزائر ليست خصمًا عابرًا، بل دولة عميقة، ثابتة في موقعها، راسخة في تحالفاتها، تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، ومتى تجعل الوهم المغربي يسقط أمام أول اختبار للواقع.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الحكم الذاتي… الانتحار المبرمج لـ”مملكة الليوطي”
شرح وزير الدولة ووزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف، في لقاء متلفز، كل حيثيات قرار مجلس الأمن،…







