‫الرئيسية‬ الأولى بيانات الدولة على فيسبوك… تهديد للأمن السيبراني الجزائري!
الأولى - الوطني - مقالات - 28 يوليو، 2025

بيانات الدولة على فيسبوك… تهديد للأمن السيبراني الجزائري!

بيانات الدولة على فيسبوك… تهديد للأمن السيبراني الجزائري!
أصبح من المألوف أن تتوجّه مؤسسات الدولة الجزائرية إلى مواطنيها من خلال منشورات على منصات التواصل الاجتماعي. الوزارات، المديريات العامة، والهيئات الرسمية المختلفة باتت تُصدر بياناتها وقراراتها عبر “فيسبوك” و”تويتر”، وهو ما يبدو للوهلة الأولى تكريسًا للانفتاح الرقمي وتسهيلًا للتواصل مع المواطن، لكنه في العمق يثير تساؤلات عميقة تتعلق بطبيعة الدولة، وحدود سيادتها، ومكانة الإعلام المؤسساتي في بنيتها الاتصالية.

لم يعد الخطاب الرسمي اليوم حكرًا على وكالة الأنباء الجزائرية أو التلفزيون العمومي، بل أصبح يُنشر أولًا، وأحيانًا حصريًا، على صفحات التواصل الاجتماعي. هذا التحوّل الرقمي، وإن كان يعكس مواكبة للعصر، إلا أنه ينطوي على مخاطر استراتيجية إذا لم يُؤطر بسياسات وطنية واضحة. فعندما تصبح قرارات الدولة، بل بياناتها السيادية، خاضعة لخوادم وشركات أجنبية، فإن الأمر لا يُعد مجرد خيار اتصالي، بل يمثل اختلالًا يمسّ الأمن السيبراني والسيادة المعلوماتية للبلد.

إن المعلومات التي تُبث عبر هذه المنصات يمكن التلاعب بها أو نسخها أو تعديلها أو تزويرها بسهولة، في ظل غياب أدوات رسمية للتحقق أو مرجع مؤسساتي ثابت تعود إليه المعلومة. ومع تزايد انتشار الأخبار الزائفة، تصبح كل وثيقة منشورة دون توقيع أو إمضاء رقمي عرضة للتشكيك، ويصبح الرأي العام رهينة لما يُبث على حسابات افتراضية قد تُخترق أو تُغلق أو تُسحب في أي لحظة بقرار من إدارة أجنبية.

المشكلة لا تكمن فقط في الوسيط، بل في غياب بنية وطنية تحصّن المعلومة الرسمية. فالوثائق والبيانات الرسمية ينبغي أن تصدر أولًا عن منصات وطنية رسمية (.dz)، وأن تكون محمية ببروتوكولات رقمية تضمن مصداقيتها، مثل تقنية التوقيع الرقمي، وشهادات المصادقة، وأرشفة المحتوى على خوادم وطنية. أما الواقع الحالي، فهو اختزال العلاقة بين الدولة والمواطن في منشور على فيسبوك، بلا توقيع، بلا تاريخ دقيق، وأحيانًا بلا هوية مؤسسية واضحة.

هذا النمط من الاتصال يجعل الدولة تبدو وكأنها فقدت السيطرة على أدواتها الإعلامية، وفتحت المجال لتضليل الرأي العام، سواء عن قصد أو عن غير قصد. وقد شهدنا في مناسبات عديدة تداول بيانات مزيفة نُسبت إلى جهات رسمية، ولم يتم تكذيبها أو توضيحها إلا بعد انتشارها على نطاق واسع، ما يعكس هشاشة كبيرة في آليات التواصل والتصحيح.

الأمن السيبراني ليس مجرد قضية تقنية، بل هو ركن من أركان السيادة. والمعلومة الرسمية، شأنها شأن الأمن الغذائي أو الطاقوي، يجب أن تُدار في إطار وطني محكم. إذ لا يمكن الحديث عن استقلال القرار الوطني إذا كانت قرارات الدولة تُخزن وتُعرض على خوادم أجنبية، وتُسوّق من خلال أدوات اتصالية لا تخضع للقانون الجزائري.

وفي ظل هذا الواقع، يبرز غياب الإعلام المؤسساتي كمشكلة موازية. فالتلفزيون العمومي، الإذاعة، والصحف الرسمية، لم تعد قنوات أولى في نشر وتفسير القرار العمومي، بل تحوّلت إلى وسائط ناقلة لما يُنشر أصلًا على الفيسبوك. وهكذا، يتراجع دورها في التحليل والمتابعة، ويُفرغ المشهد الإعلامي من مضمونه التعددي والمهني.

من جهة أخرى، لا بد من الاعتراف بأن المواطن الجزائري لم يُمنح بعد الأدوات الكافية للتحقق من صحة ما يقرأه أو يشاهده عبر هذه المنصات. لا توجد بوابات رسمية تمكّنه من إدخال رقم مرجعي لوثيقة أو بيان للتحقق من صحته، ولا حملات توعية إعلامية تشرح له كيف يميز بين البيان الرسمي والمنشور الزائف. وهنا يظهر الخلل الأكبر، حين لا تكون الدولة هي المرجع، يبحث المواطن عن بدائل، غالبًا غير موثوقة.

ما نحتاج إليه ليس فقط تقنين الاستخدام الرسمي للمنصات الاجتماعية، بل بناء منظومة اتصال وطنية متكاملة، تقوم على النشر عبر مواقع مؤمّنة، استخدام التوقيع الرقمي، حماية المحتوى داخل خوادم جزائرية، وتكوين المواطن على أدوات التحقق. كما يجب إعادة الاعتبار لدور الإعلام الوطني، ليكون شريكًا في نقل القرار، لا مجرد ناقل لنسخة رقمية.

الرقمنة ليست هدفًا في حد ذاتها، بل وسيلة سيادية لمواكبة التطور العلمي والتقني. والمحتوى المنشور على الفيسبوك يجب أن يُحاط بنفس الحذر الذي يُحاط به البيان الرسمي داخل قاعة مؤسساتية. لأن تسريب معلومة، أو تزييف بيان، أو تضليل المواطنين، لا يختلف في أثره عن أي تهديد أمني آخر. الفرق فقط أن السلاح هنا هو المعلومة، وساحة المعركة هي الوعي الجماعي.

الدولة لا يجب أن تختزل ذاتها في صفحة على منصة أجنبية، مهما كان انتشارها. بل يجب أن تسخّر كل إمكاناتها لحماية المعلومة، وتنظيم تدفقها، وضمان مصداقيتها. لأن من لا يملك السيطرة على رسالته، لا يمكنه السيطرة على قراره.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …