بين الدبلوماسي والكلوشار!
حين تصل العلاقات بين الدول إلى درجة يصبح فيها دبلوماسي، صاحب مسار مهني في خدمة بلده، ملاحقاً بمذكرة توقيف دولية، بينما يُمنح شخص مطارد في قضايا ابتزاز واحتيال وتشهير لقب “المعارض السياسي” في الإعلام الفرنسي، ندرك أن المعايير قد انقلبت رأساً على عقب. هنا لا يعود النقاش حول العدالة أو حرية التعبير، بل حول التلاعب بالمفاهيم واستخدامها كسلاح سياسي. فالدبلوماسي الذي كان يلتزم بقواعد العمل الدولي ويُمثّل بلاده في المحافل الرسمية، يوضع على قدم المساواة مع شخص لم يُكمل تعليمه الابتدائي، يلهث وراء الإثارة على “يوتيوب” ويجمع سجلاً من القضايا الجنائية، وكأننا أمام مشهد عبثي يختلط فيه المقام الرفيع بالانحطاط، والشرعية بالمغامرة.
إن وصف أمير بوخرص، المعروف إعلامياً بـ “أمير DZ”، بالمعارض السياسي هو إهانة لمفهوم المعارضة نفسها قبل أن يكون تضليلاً للرأي العام. فالمعارض الحقيقي هو صاحب مشروع سياسي واضح، يقدم أفكاراً وبرامج بديلة، ويخوض معارك فكرية وقانونية من أجل تغيير واقعه في إطار منظم. أما بوخرص، فهو شخص ترك مقاعد الدراسة عند السنة الرابعة ابتدائي، وتورط في قضايا موثقة تتعلق بالابتزاز، والتشهير، والاحتيال، وغسل الأموال، وتمويل أنشطة مشبوهة. هذه ليست تهم فضفاضة، بل ملفات قائمة أمام القضاء الجزائري، بعضها مدعوم بمذكرات توقيف دولية، وأحكام غيابية وصلت إلى عشرين عاماً سجناً، وهي قضايا ما زالت حاضرة في الأروقة القضائية.
ورغم الصورة التي يروّجها الإعلام الفرنسي عن بوخرص بوصفه “معارضاً سياسياً”، فإن سيرته تحمل معطيات تضعف هذا الوصف من أساسه. فقبل وصوله إلى فرنسا، كان قد قدّم طلب لجوء في ألمانيا مدعياً أنه مثليّ الجنس ومهدد في الجزائر، لكن السلطات الألمانية رفضت طلبه ولم تمنحه الحماية، لينتقل لاحقاً إلى فرنسا حيث طلب اللجوء السياسي على أساس الاضطهاد السياسي المزعوم. هذه الوقائع تكشف أن قصة “المعارض” التي تبني عليها باريس وإعلامها خطابها ليست إلا فصلاً من مسار متقلب لرجل يبدّل ذرائع اللجوء حسب الظرف والجهة المستقبلة، بعيداً كل البعد عن صورة المناضل صاحب المشروع السياسي الواضح.
أما ما يخص مذكرة التوقيف الدولية الصادرة بحق صلاح الدين سلوم، السكرتير الأول السابق في السفارة الجزائرية بباريس، فهي تمثل تجاوزاً صريحاً للأعراف الدبلوماسية. إذ كيف يمكن تبرير تعميم اسم دبلوماسي على لوائح الإنتربول في ظرف يومين، وفي قضية مشحونة سياسياً، من دون عرض أدلة قاطعة على الرأي العام؟ بل كيف يمكن القفز فوق مبدأ الحصانة الدبلوماسية المنصوص عليه في اتفاقية فيينا، واستدعاء تهم ذات صلة بـ”الإرهاب” في سياق يبدو أقرب إلى التصعيد السياسي منه إلى مسار قضائي نزيه؟ إن هذا القرار يعكس نية واضحة في استغلال الملف لزيادة الضغط على الجزائر، لا سعياً لتحقيق العدالة بحد ذاتها.
إن ما يحدث اليوم هو قلب للمعايير على نحو خطير. دبلوماسي أمضى سنوات في تمثيل بلاده يُعامل كمجرم دولي، بينما شخص لا يحمل أي صفة سياسية حقيقية يُعامل كمناضل من أجل الديمقراطية. هذا الخلط بين المقامات لا يسيء فقط إلى الحقيقة، بل يهين المعارضة الحقيقية التي عرفت في التاريخ رجالات ونساء ضحوا بحياتهم دفاعاً عن أفكار ومشاريع وطنية. أما هنا، فنحن أمام مشهد إعلامي وسياسي يخلط الأوراق عمداً، لغايات يعرفها صانعو القرار في باريس.
لا يمكن النظر إلى ملفي أمير بوخرص وصلاح الدين سلوم بمعزل عن المناخ المشحون الذي يطبع العلاقات بين الجزائر وفرنسا منذ سنوات. فما يجري ليس مجرد خلاف قضائي أو اختلاف في وجهات النظر حول قضية فردية، بل هو انعكاس لمعركة سياسية مكتومة تتجاوز الأشخاص إلى اختبار الإرادة بين دولتين. فرنسا، التي ما زالت تتصرف أحياناً بمنطق الوصي الاستعماري، تجد في تضخيم صورة بوخرص وسيلة لإحراج الجزائر، وفي ملاحقة سلوم ورقة ضغط إضافية على الطاولة الدبلوماسية. أما الجزائر، فترى في ذلك مساساً بسيادتها ومحاولة لتقويض مؤسساتها القضائية والدبلوماسية. وهكذا، بين “الدبلوماسي” الذي يواجه مذكرة توقيف دولية بلا سند واضح، و”الكلوشار” الذي تُلمّع صورته في وسائل الإعلام ليصبح “معارضاً” بقدرة قادر، تتجسد أزمة أعمق بكثير من مجرد خبر عابر، أزمة عنوانها الحقيقي: من يملك الحق في صياغة الرواية ومن يفرضها على الآخر.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …