‫الرئيسية‬ الأولى تحالف الجزائر وروما يُربك بروكسل ويُقصي باريس
الأولى - الوطني - مقالات - 25 يوليو، 2025

تحالف الجزائر وروما يُربك بروكسل ويُقصي باريس

تحالف الجزائر وروما يُربك بروكسل ويُقصي باريس
يشهد التعاون الجزائري الإيطالي تطورًا لافتًا، ساهم في تعزيز موقع الجزائر كشريك موثوق به في جنوب المتوسط، وفي الوقت ذاته، أتاح لها مساحة أوسع للحركة داخل المشهد الأوروبي، لا سيما في ظل التوترات المتكررة مع بعض العواصم الأوروبية، وفي مقدمتها باريس. هذا التقارب الاستراتيجي بين الجزائر وروما تجاوز الأطر الاقتصادية التقليدية، ليتحول إلى شراكة متقدمة تمس قطاعات الطاقة، الصناعة، الدفاع، الاتصالات، والتحول الرقمي، وهو ما يظهر من خلال الزخم الذي شهدته الزيارات الرسمية المتبادلة ومخرجاتها الملموسة.

الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس عبد المجيد تبون إلى روما، واستقباله من قبل رئيس الجمهورية الإيطالية ورئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، كانت دليلاً على متانة هذه الشراكة. خلال هذه الزيارة، جرى التوقيع على مجموعة من الاتفاقيات التي ترسّخ التعاون الثنائي في مجالات استراتيجية، أبرزها الطاقة، حيث تحتل الجزائر موقعًا محوريًا في تزويد إيطاليا بالغاز الطبيعي، بنسبة تفوق 40% من حاجتها السنوية. وهذا يجعل الجزائر شريكًا رئيسيًا في معادلة الأمن الطاقوي الأوروبي، خصوصًا مع مشاريع الهيدروجين الأخضر التي بدأت البلدين في بحثها كمرحلة تكميلية في انتقال أوروبا نحو طاقة نظيفة ومستدامة.

هذا التحالف الطاقوي يأتي في سياق دولي حساس، بعد التغيرات التي عرفتها خريطة التزود بالطاقة في أوروبا عقب الأزمة الروسية الأوكرانية، ما عزز من أهمية الجزائر لدى روما، التي تسعى لتقليص تبعيتها الطاقوية وتقوية موقعها كمحور لتوزيع الطاقة نحو باقي دول أوروبا. ووفقًا لما تم الاتفاق عليه، فإن مشاريع الربط عبر كابل اتصالات بحري مباشر بين الجزائر وإيطاليا سترسّخ كذلك البنية التحتية الرقمية بين البلدين، وتفتح آفاقًا جديدة للتعاون في مجال الرقمنة وربط الجزائر بالنظام الأوروبي والعالمي لتبادل البيانات.

سياسيًا، تشكل إيطاليا اليوم أحد الحلفاء الأوروبيين الذين تتقاطع مصالحهم مع الرؤية الجزائرية لسيادة القرار، خصوصًا داخل الاتحاد الأوروبي. وتُعرف رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بمواقفها الصريحة داخل الاتحاد، لا سيما في ملفات الهجرة والحوكمة، حيث سبق أن عبرت بوضوح عن انتقادات حادة لسياسات بروكسل، مطالبة بدور أكبر لروما، وبدعم أقوى في مواجهة التحديات التي تواجهها على سواحلها الجنوبية. هذه الاستقلالية النسبية في القرار الإيطالي تجعل من روما شريكًا مهمًا للجزائر، خصوصًا في القضايا التي تتطلب إجماعًا أو توافقًا داخل المنظومة الأوروبية.

كما يُنظر إلى التقارب الجزائري الإيطالي على أنه تحرك استراتيجي من الجزائر لإعادة التوازن في علاقاتها داخل الفضاء الأوروبي، بعد سنوات من التوتر المتكرر مع باريس. وقد ألمح الرئيس تبون، في أكثر من مناسبة، إلى أن علاقات الجزائر بفرنسا لم تعد مجدية بالشكل المطلوب، مبررًا ذلك بأن التعامل الفرنسي لا يزال محكومًا بنظرة استعمارية قديمة، تتجلى في مواقف بعض المؤسسات الاقتصادية والسياسية. في المقابل، تظهر إيطاليا كشريك يعترف بندية الجزائر ويدفع باتجاه شراكات فعلية تقوم على المصالح المتبادلة، بدلًا من الإملاءات أو الخطابات الرمزية.

في هذا الإطار، لا يمكن تجاهل البُعد الثقافي والرمزي في العلاقة بين البلدين، حيث عبّر البابا فرنسيس، خلال الزيارة ذاتها، عن رغبته في زيارة الجزائر، وخصوصًا مدينة عنابة التي تحتضن كنيسة القديس أوغسطين، أحد أبرز أعلام الفكر المسيحي في شمال إفريقيا. هذا البُعد الروحي والتاريخي يضيف طابعًا فريدًا للعلاقة الثنائية، ويؤكد أن الجزائر ليست فقط شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا، بل أيضًا فضاءً حضاريًا يُحتفى به من طرف مؤسسات عالمية.

أما على المستوى الأوروبي الأوسع، فإن التقارب الجزائري الإيطالي يكتسب بُعدًا استراتيجيًا مضاعفًا في ظل بعض التوترات السياسية مع المفوضية الأوروبية. وقد ظهرت مؤخراً مؤشرات توتر بين الجزائر وبروكسل على خلفية تقارير وبيانات تحمل إشارات تمس بالسيادة الوطنية الجزائرية، وهي تقارير تُرجّح مصادر مطلعة أنها جاءت بدفع من بعض الأطراف التي لا تنظر بعين الرضا إلى استقلالية القرار الجزائري. وهنا تبرز أهمية الدور الإيطالي، ليس فقط كشريك اقتصادي، بل كصوت وازن داخل الاتحاد الأوروبي قادر على موازنة الكفة والحد من تأثير بعض الخطابات المتصلبة.

ومن المهم الإشارة إلى أن آلية اتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي تمنح لدول بحجم إيطاليا تأثيرًا حقيقيًا، إذ إن الامتناع أو التحفظ من طرف دولة مؤسسة مثل روما، يمكنه تعطيل قرارات أو فرض توجهات جديدة. ولهذا، فإن الجزائر تراهن على هذا الموقع الإيطالي لإجهاض أي محاولات تستهدف مصالحها الإقليمية أو تمس بهامش سيادتها السياسية.

في المجمل، فإن العلاقة الجزائرية الإيطالية تسير بخطى ثابتة نحو شراكة شاملة متعددة الأبعاد، لا تقتصر على الطاقة أو الاقتصاد، بل تمتد إلى المجالات الأمنية، الرقمية، الثقافية والدبلوماسية، بما ينسجم مع رؤية الجزائر لبناء تحالفات ناضجة تقوم على المصالح المشتركة والندية. هذا التوجه يعكس نضجًا سياسيًا واضحًا لدى صانعي القرار في الجزائر، الذين يدركون جيدًا أن التنوع في الشراكات هو السبيل الأنجع لتعزيز الاستقلالية، وتفادي الارتهان لأي طرف تقليدي لم يعد يقدّم ما يخدم مستقبل البلاد. وفي هذا السياق، تبرز إيطاليا كشريك يثق فيه الجزائريون، ويحظى بدعم شعبي ورسمي متزايد.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…