‫الرئيسية‬ الأولى جوفانوفيتش يُقمع… وصنصال يُكرَّم! حرية التعبير على الطريقة الفرنسية!
الأولى - فنون وثقافة - 28 يوليو، 2025

جوفانوفيتش يُقمع… وصنصال يُكرَّم! حرية التعبير على الطريقة الفرنسية!

بين صنصال وجوفانوفيتش... ازدواجية المعايير في حرية التعبير الفرنسية!
في الوقت الذي ترفع فيه فرنسا شعارات حرية التعبير وتروّج لنموذجها “الديمقراطي” في كل محفل دولي، تعرض أحد مواطنيها، الكاتب والصحفي المعروف بيير جوفانوفيتش، لمداهمة أمنية عنيفة وغير مبررة، استهدفت منزله ومقر دار نشره في باريس. العملية التي نُفذت في منتصف الليل بمشاركة ما يقرب من 60 عنصرًا من الشرطة والدرك ورجال الإطفاء، جاءت تحت ذريعة “إجراء طبي يتعلق بالصحة النفسية”، وهي حجة لم يُبذل أي جهد فعلي لتطبيقها، مما أثار تساؤلات جدية حول الخلفيات الحقيقية لما حدث.

جوفانوفيتش، المعروف بكتاباته النقدية للنظام المالي العالمي ولسياسات الحكومة الفرنسية، لم يكن في منزله أثناء الاقتحام. وقد تلقى صورًا من جيرانه تُظهر رجال الأمن وهم يكسرون الأبواب ويعبثون بمحتويات دار النشر، بل ويقتحمون أقبية لا تعود له شخصيًا. في تصريحاته اللاحقة، وصف ما جرى بأنه “عملية ترهيب” تهدف إلى منعه من إصدار كتابه الجديد، الذي يكشف فيه، وفقًا لما قال، عن ممارسات مالية مشبوهة ويدعو الفرنسيين إلى حماية أموالهم من النظام البنكي عبر الاستثمار في الذهب، وهو ما يتعارض مع مصالح المؤسسات المالية الكبرى المتحالفة، بشكل غير معلن، مع السلطة.

ولم يتوقف الكاتب عند نقد المؤسسات الاقتصادية، بل تناول أيضًا التمويل الغربي للحرب في أوكرانيا، والسياسات الأوروبية التي تقود القارة نحو تصعيد غير محسوب مع روسيا، مما يجعله هدفًا محتملاً لكل من الدوائر السياسية والمالية على حد سواء. غير أن المفارقة الكبرى تكمن في أن السلطات الفرنسية، التي تسوّق نفسها كمدافعة عن حرية التعبير، استخدمت ضده تهمة “الجنون”، وهي أسلوب لا يختلف كثيرًا عن ما تتهم به أنظمة أخرى تُصنّف على أنها استبدادية.

هذا الاستهداف الممنهج يُذكّرنا بحالات سابقة في التاريخ الفرنسي، حيث كانت الرقابة تمارس تحت أقنعة متعددة، لكن الجديد اليوم هو الازدواجية الصارخة في التعامل مع حرية التعبير، ليس فقط داخل فرنسا بل أيضًا في نظرتها إلى الخارج. ولعل المثال الأوضح على هذه الازدواجية، هو الكيفية التي تتعامل بها باريس مع الكاتب الجزائري بوعلام صنصال، الذي يُقدَّم في الأوساط الثقافية الفرنسية والأوروبية كرمز للحرية والجرأة، وتُفتح له المنابر ويُكرَّم مرارًا، ليس لأنه يكتب بحرية، بل لأنه يهاجم بلده الجزائر باستمرار، وينسجم خطابه مع الرواية الفرنسية الرسمية.

صنصال معروف بمواقفه الحادة تجاه ثوابت الهوية الجزائرية، كما أنه من الكتّاب القلائل في العالم العربي الذين دافعوا صراحة عن إسرائيل وهاجموا المقاومة الفلسطينية، وهو ما جعله يحظى بدعم غير مشروط من دوائر ثقافية وإعلامية في فرنسا، رغم أن خطابه – وفق معايير حرية التعبير الحقيقية – لا يمثل جرأة فكرية بقدر ما يعكس امتثالًا لأجندة أيديولوجية واضحة.

وفي المقابل، نجد كاتبًا فرنسيًا مثل جوفانوفيتش يُلاحق وتُداهم ممتلكاته، فقط لأنه أراد أن يُصدر كتابًا ينتقد فيه النظام المالي ويطرح أسئلة مشروعة حول المسار السياسي الذي تنتهجه بلاده. لم يُهاجم فرنسا من الخارج، ولم يُهاجم “الآخر”، بل انتقد منظومة داخلية قائمة على تحالف المال والإعلام والسياسة. وبدلًا من أن يُمنح الحق في الرد والمناقشة، واجه الاقتحام والترهيب والتشهير.

المفارقة هنا فاضحة: إذا كنت تهاجم بلدك من الخارج، فستُكافأ. وإذا انتقدت سلطتك من الداخل، فستُقمع. صنصال، الذي يُهاجم الجزائر من باريس، يتم تقديمه ككاتب شجاع. أما جوفانوفيتش، الذي ينتقد فرنسا من داخلها، فيُقدَّم كمشكوك في قواه العقلية.

ما يجمع بين الحالتين هو أن حرية التعبير، التي يُفترض أن تكون مبدأً كونيًا، أصبحت أداة انتقائية تُستخدم لتصفية الحسابات السياسية، ووسيلة لفرض رؤية واحدة تحت ستار “التعددية”. الغرب، وفي مقدمته فرنسا، بات يمارس ما يُمكن وصفه بـ**”حرية التعبير المشروطة”**: حريتك مضمونة ما دامت لا تزعج المؤسسات المالية، ولا تنتقد سياسات حلف شمال الأطلسي، ولا تضع الاحتلال الإسرائيلي في موقع الاتهام.

قضية جوفانوفيتش تُسلّط الضوء على الانهيار التدريجي لمصداقية الديمقراطية الغربية، ليس فقط بسبب ما يحدث من تجاوزات، بل بسبب التناقض العلني بين الشعارات والممارسات. بينما تُحاضر باريس على عواصم الجنوب العالمي في الديمقراطية والشفافية، فإنها تُسكت أصواتًا نقدية على أراضيها وتُوظف أدوات الدولة لإخمادها.

كما أن المقارنة بين طريقة تعامل فرنسا مع جوفانوفيتش وصنصال تطرح سؤالًا عميقًا: هل تقاس حرية التعبير بموقعك الجغرافي فقط؟ أم بموقعك السياسي من السلطة؟ وهل يمكن اعتبار التكريم الثقافي في فرنسا محايدًا إذا كان لا يُمنح إلا لمن يخدم روايتها الرسمية؟

في النهاية، ما حدث مع جوفانوفيتش ليس مجرد تعدٍّ على كاتب، بل هو تعدٍّ على مبدأ. إنه تذكير بأن الديمقراطية الغربية ليست دائمًا كما تُعرض في واجهات الإعلام، وأن حرية التعبير قد تتحول إلى جريمة، حين تكون الكلمة حرة فعلًا، لا مروّضة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

لقاء موسّع بين وزير الاتصال والنقابات…

يواصل وزير الاتصال زهير بوعمامة خطواته الميدانية لإعادة بعث ديناميكية جديدة في قطاع الإعلا…