جيجل بين دفتي كتاب… تاريخ يعود إلى الضوء
يُشعل الباحث الجزائري خالد بلي جذوة الذاكرة التاريخية لجيجل في زمن يتسارع فيه النسيان، ويقدّم من خلال كتابه «منطقة جيجل منذ ما قبل التاريخ إلى الاحتلال الوندالي» عملاً علمياً راسخاً يعيد قراءة تاريخ المنطقة من جذوره الأولى، ممتداً من العصور الحجرية إلى الحقبة الوندالية، ضمن مقاربة تجمع بين المنهج الأثري والدراسة التاريخية وتستند إلى شواهد مادية وقراءات علمية دقيقة. ويشكّل هذا العمل ثمرة سنوات طويلة من البحث الميداني والاطلاع الأكاديمي، حيث لم يكتف المؤلف بتجميع المعلومات، بل سعى إلى إعادة بناء الصورة التاريخية للمنطقة اعتماداً على الأدوات الحجرية، النقوش الصخرية، البقايا العمرانية، والآثار التي خلفتها الحضارات المتعاقبة، لتبرز جيجل كفضاء حضاري قائم بذاته، لا كهوامش متناثرة في سجلات التاريخ.
ويتقدّم الكتاب برؤية تحليلية تهدف إلى فهم تطور الإنسان الجيجلي عبر الزمن، من خلال مقاربة مقارنة تتتبع أثر الإنسان في محيطه الطبيعي والجغرافي وتفاعله مع المتغيرات الحضارية التي عرفتها شمال إفريقيا. ويبرز المؤلف كيف استطاع المجتمع الجيجلي القديم الحفاظ على خصوصيته الثقافية رغم موجات الغزو والتحولات السياسية والعسكرية التي مرّت بها المنطقة، بدءاً من فترات ما قبل التاريخ، مروراً بالعهود النوميدية والقرطاجية والرومانية، وصولاً إلى الاحتلال الوندالي الذي ترك بدوره بصمات واضحة على الفضاء المحلي. ويمنح هذا التنقيب التاريخي رؤية شاملة تُظهر جيجل كمنطقة ذات ديناميكية حضارية متواصلة، عرفت التفاعل مع محيطها وشاركت في تشكيل جزء من الهوية التاريخية لشمال إفريقيا.
ويحمل أسلوب خالد بلي في هذا العمل مزيجاً نادراً بين الصرامة الأكاديمية والانتماء الوجداني للمكان. فقد صاغ كتابه بلغة واضحة، متينة، تُبرز تعمقه في المصادر التاريخية والأثرية، وفي الوقت ذاته تعبّر عن قربه من الأرض التي يكتب عنها، مما يمنح النص حرارة إنسانية لا تقلّ أهمية عن قيمة المعطيات العلمية. ويحفّز هذا العمل قارئه على إعادة النظر في العلاقة بين التاريخ والهوية، ويقدّمه نموذجاً لجيل من الباحثين الشباب الذين يوظفون أدوات البحث العلمي الحديثة لإحياء الذاكرة المحلية وإعادة الاعتبار لتاريخ مناطق ظلت لسنوات بعيدة عن دائرة الضوء الأكاديمي.
ولا يقتصر أثر الكتاب على المختصين فحسب، بل يمتد ليخاطب كل قارئ يسعى لفهم جذور المكان والإنسان في الجزائر. وهو عمل يعيد وصل الحاضر بالماضي، ويجعل من التاريخ جسراً نحو وعي حضاري معاصر، مؤكداً أن ذاكرة الشعوب لا تُصان إلا عندما تُقرأ وتُكتب وتُوثَّق بجهد وإخلاص. ومن خلال هذا المسار، يكرّس خالد بلي جهده لخدمة الذاكرة الوطنية، ويثبت عبر مشروعه العلمي أن التاريخ ليس مجرد مادة للقراءة، بل هو مجال مستمر للاكتشاف وإعادة البناء.
وتتجلّى خلف هذا الجهد مسيرة أكاديمية ومهنية واضحة الملامح. فخالد بلي، المولود في 1 فيفري 1992 بالطاهير في ولاية جيجل، تابع مساره التعليمي بنيل شهادة البكالوريا من ثانوية ناصري رمضان سنة 2015، ثم تحصّل على شهادة الليسانس في التاريخ عام 2018 من جامعة سطيف، قبل أن يكمل دراسته العليا وينال شهادة الماستر في تاريخ وحضارة بلاد المغرب القديم سنة 2020. وبالتوازي مع مساره الأكاديمي، انخرط في البحث في التاريخ المحلي وفي دراسة الحضارات القديمة ببلاد المغرب، واشتغل على توثيق المعالم التاريخية من خلال عدسته كمصور مهتم بالذاكرة المادية، كما شغل منصب نائب رئيس جمعية «أنوار المعرفة» بوجانة، وتحصل على عدة جوائز في مجال البحث التاريخي المحلي، ما يعكس التزامه الكامل بخدمة التراث الوطني.
ومن خلال هذا الكتاب، يضع خالد بلي لبنة جديدة في مشروعه الهادف إلى إعادة قراءة تاريخ جيجل باعتبارها منطقة ذات ثراء حضاري كبير، ويؤكد أن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو اكتشاف دائم للمعاني والامتدادات، وأن الذاكرة الجماعية لا تبقى حيّة إلا حين تجد من يعيد إحياءها ببحث علمي رصين وحسّ ثقافي صادق.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
العقرب الملائكي.. رواية تكشف الوجه الخفي لمعاناة المرأة بين القيد والنهضة
تطرح الكاتبة غنّام جمعة في روايتها الجديدة “العقرب الملائكي” عملاً سردياً لافت…






