‫الرئيسية‬ الأولى حراس الأزمة!
الأولى - الافتتاحية - ‫‫‫‏‫3 أسابيع مضت‬

حراس الأزمة!

حراس الأزمة!
كلما حاولت الجزائر وباريس الاقتراب من لحظة عقلانية، خرجت من وراء المشهد تلك الأصوات التي تعيش من مهنة واحدة، مهنة النفخ في الرماد. أصوات لا تظهر إلا عندما تقترب العلاقات من الهدوء، كأنها مزوّدة بجهاز إنذار يعمل تلقائياً عند أول خطوة في اتجاه التفاهم. وهي أصوات تعرف جيداً كيف تقطع الطريق على أي احتمال للانفراج، لأنها تدرك أن الهدوء بالنسبة إليها يشبه إعلان بطالة سياسية.

والمفارقة أنّ هذه الأصوات لا تتحرك عندما تكون العلاقات في الحضيض، بل عندما تبدأ في الصعود. تشبه الذين يفتحون النوافذ فقط ليدخل الغبار. كل محاولة تهدئة تتحول بين أيديهم إلى مادة قابلة للاشتعال، وكل خطوة عقلانية تتحول لديهم إلى تهديد وجودي. مع أنهم يرفعون شعار “الحفاظ على العلاقة”، إلا أنّ كل أفعالهم تؤكد أنهم حراس الأزمة، لا حراس المصلحة.

والجزائر تعرف هذا السيناريو جيداً. كلما تقدّمت خطوة نحو بناء علاقة متوازنة، يظهر من يعيد الحديث إلى ملفات عمرها نصف قرن. نائب فرنسي يستيقظ فجأة ليتحدث عن “الذاكرة”، أو صحافي يعيد تدوير أسطوانة الاستعلاء، أو تسريب أمني محسوب جيداً لإعادة الثقة إلى ثلاجة الشك. نفس المشهد، نفس الوجوه، نفس التوقيت، وكأننا أمام مسرحية لا تتغير فصولها مهما تغيّر الجمهور.

وما يجعل المشهد أكثر تعقيداً أنّ بعض الدوائر في فرنسا لا تزال تعيش على قاموس سياسي قديم يرى الجزائر كـ“ملحق تاريخي” أو “مستودع مصالح”. ولذلك، كلما حاولت باريس مجاراة الواقع الجديد، خرجت أصواتها التقليدية وهي تتحدث بلغة القرون الماضية، لغة “الأستاذ والتلميذ”، لا لغة الدول المستقلة التي تقرر بناء علاقاتها على أساس الندية.

وهذه الدوائر لا تتحرك وحدها. هناك لوبيات مرتبطة بالكيان الصهيوني تتحرك عند أول إشارة تحسن بين الجزائر وباريس، لأنها تعلم أن الجزائر حين تستقر وتستعيد وزنها الإقليمي، يصبح من الصعب محاصرة مواقفها الثابتة تجاه فلسطين. ولهذا تتحرك هذه اللوبيات في الظلال، وتسرب وتفبرك وتضخ تقارير هدفها الوحيد إعادة العلاقات إلى مربع التوتر.

ثم يأتي دور “الطرف الثالث”، الذي يرى في أي تقارب بين الجزائر وباريس تهديداً مباشراً لحساباته الضيقة. هذا الطرف يحرك تحاليله من الرباط، وينفخ في نار كل خلاف، ويختلق سيناريوهات تُبقي العلاقات معلّقة بين الأزمة واللاحل. فبالنسبة إليه، العلاقة الجزائرية–الفرنسية ليست علاقة دولتين، بل ميزان مقارنة يعرف جيداً أنه يخسر فيه دائماً.

غير أن الجزائر اليوم ليست تلك الجزائر التي كانت تُستدرَج بسهولة إلى ردود الفعل، فالجزائر اختارت طريق المستقبل، وأعادت تشكيل خريطتها الدبلوماسية بوعي استراتيجي، وفتحت شراكات واسعة مع آسيا الصاعدة وروسيا، ومع دول أوروبية براغماتية مثل إيطاليا وسلوفينيا وإسبانيا والبرتغال، وهي دول فهمت أنّ التعامل مع الجزائر يقوم على الندية والمصالح المتبادلة لا على لغة الوصاية.

وفي هذا السياق، عبّر الرئيس عبد المجيد تبون بوضوح عن هذا التحول حين قال إنّ الجزائر لا تحتاج فرنسا، بل تتعامل معها كأي دولة أخرى، وإنّ العلاقة لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس الندّ للند وصون السيادة الوطنية. هذه العبارة وحدها كانت كافية لإخراج أصوات الماضي من جحورها، لأنها كشفت لهم أنّ الزمن تغيّر، وأنّ الجزائر التي صمتت طويلاً لم تعد هي الجزائر التي تقرر اليوم موقعها بملء السيادة.

فالذين يصرخون اليوم في باريس لا يصرخون دفاعاً عن العلاقات، بل خوفاً من اكتشاف أنّ الجزائر لم تعد تنتظرهم. يخيفهم أنّ الجزائر خرجت من الميناء القديم إلى فضاء شراكات أوسع، وأنّ فرنسا لم تعد البوابة الوحيدة ولا الطريق الإجباري. الجزائر اليوم تنظر إلى العلاقات بمنطق الفائدة، لا بمنطق التاريخ، وهذا ما يربك “الحرس القديم” المقيم في ذاكرة متهالكة.

أما الذين يصرخون في الخارج من لوبيات مصالح ومن غرف مظلمة، فهم يصرخون لأنّ اللعبة خرجت من أيديهم. اعتادوا أن تكون الجزائر رقماً في حساباتهم، فإذا بها تتحول إلى معادلة دولية معقدة. واعتادوا أن يكون الضغط وسيلتهم، فإذا بالضغط يرتد عليهم. واعتادوا أن يجدوا دولة منشغلة بردود الفعل، فإذا بهم يواجهون دولة تبني قراراتها بهدوء وثقة وسيادة.

تبقى الحقيقة التي تزعج الجميع، الجزائر لا تعود إلى الوراء، والعلاقات التي تُبنى على الندية لا تهدمها صرخات الماضي، والشراكات التي تُبنى على رؤية مستقبلية لا توقفها أوراق قديمة ولا لوبيات مذعورة. ومن لا يفهم أنّ الجزائر صارت تفكر بلغة عالم جديد، سيبقى يصرخ في الفراغ، بينما الجزائر تواصل طريقها نحو المستقبل بثقة، غير آبهة بمن يحاولون قطع الطريق، لأن الطريق لم يعد يمرّ من حيث أرادوها أن تمر.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

العدد 86 من يوميـــــة “المؤشر” 25|11|2025