‫الرئيسية‬ الأولى حروب البريغابالين!
الأولى - الافتتاحية - 9 يونيو، 2025

حروب البريغابالين!

تهريب البريغابالين
لم تعد حدود الجزائر الجنوبية مجرّد معابر للتهريب، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى جبهة صامتة تخوض فيها البلاد واحدة من أخطر حروبها: حرب المؤثرات العقلية. لم يعد يمر يوم دون أن تعلن مصالح الأمن أو الجيش أو الجمارك عن حجز كميات ضخمة من الأقراص المهلوسة، وعلى رأسها مادة “بريغابالين”، التي أصبحت عنوانًا لهذه المواجهة الجديدة التي لا تُرى فيها البنادق، بل تُفكك فيها العقول وتُحطم الأسر وتُستهدف الأوطان من الداخل. لكن السؤال الذي يتكرر بإلحاح هو: من يُنتج هذه السموم؟ ومن يُهرّبها؟ ولماذا الجزائر؟

تقارير أمنية وإعلامية متعددة، منها ما نشره موقع InSight Crime المتخصص في تتبع الجريمة المنظمة، تشير إلى أن كميات معتبرة من هذه الأقراص تُنتج في مخابر غير شرعية أو شبه قانونية في مناطق متفرقة من الساحل الإفريقي، خاصة في دول مثل مالي، النيجر، وأجزاء من ليبيا، حيث تنتشر الفوضى الأمنية، وتسيطر شبكات التهريب والجريمة المنظمة على مسالك كاملة، بمساعدة جماعات مسلحة وبعض الميليشيات العابرة للحدود.

ليبيا، تحديدًا، لم تعد فقط ممراً نحو الجزائر، بل بدأت تظهر فيها مؤشرات مقلقة على وجود مخابر ومصانع محلية لتصنيع المهلوسات، كما كشفت تقارير نشرتها “سكاي نيوز عربية” و”ميدل إيست مونيتور”، تؤكد استغلال معسكرات سابقة ومخازن مهجورة في الجنوب الليبي، خاصة بمدينة “سبها”، لتحويلها إلى أوكار إنتاج للترامادول والبريغابالين، قبل تهريبها نحو الجزائر وتونس وحتى أوروبا. هذه المصانع لا تعمل عشوائيًا؛ بل بإشراف شبكات ذات طابع إقليمي، يُشتبه بارتباطها بعصابات دولية وحتى أطراف استخباراتية.

الخطير في هذه الظاهرة ليس فقط الحجم المهول للكميات المحجوزة، والذي يُقدّر بأكثر من 12 مليون قرص خلال الستة أشهر الأخيرة في الجزائر، وإنما في تكرار الأساليب واحترافيتها. شاحنات صهريج، مركبات نفعية، مسالك وعرة، دراجات نارية، وتهريب عبر الحدود الترابية، وكلها تقود إلى فرضية أن الجزائر مُستهدفة ممنهَجًا من خلال خطة لإغراقها بالسموم.

هذه الحرب الصامتة، التي لا تثير صخباً إعلامياً كالتهديدات الأمنية التقليدية، أخطر بكثير، لأنها تتسلل إلى المدارس، والأحياء الشعبية، والقرى النائية، وتصيب الشباب، وتضعف المناعة المجتمعية، وتُربك الأجهزة الأمنية، وتستنزف موارد الدولة.

هل نحن أمام نسخة جديدة من “حروب الأفيون” التي دمّرت الصين في القرن التاسع عشر؟ من الواضح أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بأقنعة جديدة. فما الفرق بين المخدرات التي أغرقت الصين من قبل بريطانيا، وبين المهلوسات التي تغرق الجزائر اليوم من مخابر مجهولة في الساحل وليبيا؟ العدو هذه المرة غير مرئي، وقد يلبس ثوب التاجر، أو السياسي، أو حتى الطبيب الفاسد.

الجزائر، بما تملكه من موقع استراتيجي، وثروات طبيعية، واستقرار نسبي في محيط مشتعل، تبدو هدفًا مثالياً لمن يريد زعزعة تماسكها الداخلي. وإن لم نقلها الآن بصوت مرتفع، فحرب البريغابالين هي حرب على الجزائر، تُدار من مصانع مظلمة وراء الحدود، وتُنفّذ بأيادٍ مأجورة، وشبكات تُتقن لغة السمّ.

إن الردع الأمني، مهما بلغ من احترافية، لا يكفي وحده. نحتاج إلى منظومة متكاملة تبدأ من المدارس وتنتهي بالمؤسسات الدينية، من الإعلام إلى الجمعيات، من الأسرة إلى الحي. فالمعركة اليوم لا تُخاض فقط بالكمائن والمداهمات، بل أيضاً بالكلمة الواعية، والرقابة، والإرادة السياسية الصلبة. لنربح هذه المعركة، علينا أولاً أن نسمّيها باسمها الحقيقي، إنها حرب وجود.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

العدد 86 من يوميـــــة “المؤشر” 25|11|2025