حروب المصطلحات والإخوان.. محاولة طمس تاريخ ثورة نوفمبر الجزائرية
مرت الجزائر بالكثير من التحديات على مدار تاريخها، وكان أبرزها الثورة التحريرية الكبرى التي خاضها الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. ومنذ الاستقلال، كانت الجزائر على موعد مع محاولات متعددة لتغيير ملامح هويتها الوطنية، وكان أبرز هذه المحاولات تلك التي تتعلق بمصطلحات ومفاهيم مرتبطة بتاريخها وثورتها. واحدة من هذه المحاولات كانت محاولة تغيير مصطلح “ثورة نوفمبر” إلى “الباديسية النوفمبرية”، وهو مصطلح يبدو أنه قد تم تداوله في بعض الخطابات الرسمية، بما في ذلك خطاب قائد الأركان السابق المرحوم الفريق أحمد قايد صالح.
إنَّ هذه المحاولات التي سعت إلى استبدال مصطلحات تاريخية ذات دلالة رمزية كبيرة، كالتي تتعلق بـ “ثورة نوفمبر”، تندرج ضمن استراتيجية أوسع تستهدف تغيير الوعي الجماعي للأمة الجزائرية. تعتبر هذه المحاولات جزءًا من حروب الجيل الرابع والخامس، التي تعتمد على التأثير في الذاكرة الجماعية عبر تغيير المصطلحات. هذه الحرب لا تقتصر على المعركة العسكرية التقليدية، بل تركز على معركة الأفكار والمفاهيم، وتحاول تدمير أو تعديل الرموز الوطنية التي شكلت الوعي الجزائري وأثرت في تشكيل الدولة الجزائرية الحديثة.
كان من أبرز المحاولات التي أثارت الجدل في هذا السياق إدخال اسم الشيخ العلامة ابن باديس إلى قلب الثورة الجزائرية، حيث تم ربطه بمصطلح “الباديسية النوفمبرية”. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن ربط الشيخ ابن باديس بثورة نوفمبر؟ الجواب هو أن ابن باديس لم يكن جزءًا من الثورة التحريرية، حيث توفي قبل اندلاع الثورة بعدة سنوات. ومن هنا تكمن الخطورة في استخدام اسمه في سياق لم يكن معنيًا به. كان ابن باديس من أبرز قادة الحركة الثقافية الإصلاحية في الجزائر، وكان نضاله في سبيل نشر اللغة العربية والتعليم يشكل حجر الزاوية في بناء الهوية الجزائرية المستقلة عن الاستعمار الفرنسي. إلا أن ربط اسمه بالثورة التحريرية كان هدفه توظيف إرثه الثقافي لمصالح سياسية معينة.
يجب أن نتذكر أن جمعية العلماء المسلمين التي قادها ابن باديس لم تكن مرتبطة بشكل مباشر مع حركة التحرر الوطني الجزائري، على الرغم من الدور الكبير الذي لعبته في نشر الوعي الوطني ضد الاستعمار. الجمعية كانت تهدف بشكل أساسي إلى إحياء اللغة العربية وتأسيس نظام تعليمي وطني. وعليه، فإن محاولة إقحام اسم الشيخ ابن باديس في سياق “ثورة نوفمبر” ما هي إلا محاولة لتوجيه تاريخ الجزائر وخلط مفاهيم متباينة بهدف خدمة أجندات سياسية قد تكون بعيدة عن الروح الوطنية التي ناضل من أجلها الشعب الجزائري.
إنَّ محاولة تزييف تاريخ الثورة الجزائرية بالسطو على المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بها تمثل جزءًا من حرب ثقافية ونفسية تستهدف الذاكرة الوطنية. فبدلاً من الإبقاء على مصطلحات ثورة نوفمبر المترسخة في وجدان الجزائريين، تمَّ الدفع بمصطلحات جديدة تحمل معانٍ قد تكون مشوشة أو مغلوطة.
تُظهر هذه المحاولات من خلال ربط “ثورة نوفمبر” باسم الشيخ ابن باديس، أن هناك تيارات تحاول إعادة تشكيل الوعي الوطني وتحريف تاريخ الجزائر وفقًا لمصالح سياسية معاصرة. ومن بين هذه التيارات، نجد تيار الإسلام السياسي الذي يسعى إلى فرض رؤيته الخاصة لتاريخ الجزائر، ويستخدم الدين كأداة لإعادة تشكيل المجتمع وإضفاء الشرعية على أفكار معينة.
حظيت فكرة “الباديسية النوفمبرية” بدعم من بعض التيارات المتأثرة بالفكر الإخواني، سواء في الداخل أو الخارج، وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة كيف سعت هذه التيارات إلى استغلال اسم الشيخ ابن باديس والمصالحة مع ثورة نوفمبر كوسيلة لفرض أجندتها السياسية والدينية. لكن يجب الإشارة إلى أن ابن باديس كان مناهضًا للفكر التكفيري ورفضه لمجموعة من الأفكار التي تتبناها بعض الحركات الإسلامية المتشددة. كان ابن باديس يؤمن بأن الجزائر يجب أن تستفيد من التقدم العلمي والثقافي، ويجب على النساء أن يحصلن على حقهن في التعليم، وهو موقف يتناقض تمامًا مع العديد من الأفكار التي يروج لها الإسلام السياسي.
إن محاولة ربط اسم الشيخ ابن باديس بالحركة الإسلامية السياسية، سواء من خلال المصطلح المتداول “الباديسية النوفمبرية” أو من خلال محاولات الترويج لأفكار تحمل طابعًا إيديولوجيًا معينًا، تمثل إهانة لفكر هذا الرجل العظيم الذي ناضل من أجل الجزائر المستقلة ثقافيًا وتربويًا.
في الوقت نفسه، فإن بعض الشخصيات الأخرى التي حاولت هذه التيارات رفعها إلى مصاف “الرموز الوطنية” كانت أيضًا موضع جدل. ففكر مالك بن نبي، رغم أنه يعتبر من المفكرين الكبار في التاريخ الجزائري، قد خضع لتفسير مختلف في بعض الأوساط. ولعل أبرز مثال على ذلك هو أن بعض الكتابات التي نشرها بن نبي قد صيغت باللغة الفرنسية، ما أثار تساؤلات حول مدى تأثير الثقافة الفرنسية على أفكاره، ومن ثم مدى صلاحية هذه الأفكار لتكون جزءًا من التراث الوطني الجزائري. ومن المفارقات أن بعض الكتابات التي نسب إليها انتقدت بشدة بعض الشخصيات الوطنية في الجزائر، بل واتهمت البعض منهم بالعمالة للاستعمار، مما يجعل من الصعب اعتبارها فكرًا موحدًا وشاملًا للمجتمع الجزائري.
إن التشويه المستمر للهوية الجزائرية عبر تغيير المصطلحات واستغلال التاريخ الوطني في خدمة الأجندات السياسية هو بمثابة محاولة لتشتيت الذاكرة الوطنية. فالشعب الجزائري بحاجة إلى التأكيد على هويته الوطنية المستقلة وعدم السماح لأي تيار بأن يفرض أجندته الخاصة على الذاكرة الجمعية للبلاد. الجزائر ليست مجرد جزء من الشرق الأوسط، كما يحاول البعض تصويرها، بل هي دولة ذات تاريخ طويل ومشرف يمتد عبر العصور ويعكس التنوع الثقافي واللغوي الكبير.
إن محاولات تغيير التاريخ الجزائري ليست سوى جزء من مؤامرة أكبر تهدف إلى مسح معالم هذا التاريخ وفرض صورة جديدة لا تمثل الواقع الجزائري، بل تهدف إلى جعل الجزائر جزءًا من مشروع إقليمي أوسع يتجاوز هويتها الوطنية.
يجب أن يظل الشعب الجزائري حريصًا على حماية هويته الوطنية، ويجب على الجميع الوقوف في وجه أي محاولات لتغيير مصطلحات تاريخية أو تزييف الحقائق التي أسست الدولة الجزائرية الحديثة. يجب أن نتعلم من الماضي وأن نتمسك بكل ما يرمز لثورتنا المجيدة، لأن التاريخ ليس مجرد أحداث وأوقات مضت، بل هو أساس هويتنا وحريتنا. الجزائر ستظل، بإذن الله، دولة ذات سيادة، وقادرة على الحفاظ على تاريخها وهويتها من أي محاولة لتشويهها أو محوها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…