‫الرئيسية‬ الأولى حين تكتب الصحافة المغربية بأقلام الاستعمار!
الأولى - الافتتاحية - 24 يوليو، 2025

حين تكتب الصحافة المغربية بأقلام الاستعمار!

حين تكتب الصحافة المغربية بأقلام الاستعمار!
لا شيء يفضح هشاشة نظام منهك مثل إعلامه التابع. وما قرأناه في بعض المنابر المغربية بشأن ما سُمّي بـ”تجاوزات قنصلية جزائرية في فرنسا” ليس مجرد خبرٍ عابر، بل نموذج صارخ لانبطاح إعلامي مزدوج، ارتباط ونقل مباشر لرواية صاغتها ماكينة داخلية فرنسية متشددة، وكذا تنفيذ في خدمة عقدةٍ تاريخية عميقة، ترسخت لدى بعض النخب المخزنية لسنوات طويلة.

هذه الصحافة التي تنطلق من الرباط تعمل كناطقة رسمية باسم الداخلية الفرنسية، فتنسخ خطابًا ملفّقًا عن منح جوازات سفر لأشخاص “خارج القانون”، دون أي تحقيق أو تحقق، وبروح تتماهى وحماسة انتهازية مع رواية الإليزيه، وتغرم الممثلين في الرباط بمشهدٍ متراجيديا ذابل.

داخل هذه الحملة، يتصدر المسؤول عن الخطاب الرسمي—ذو الانتماءات اليمينية والتاريخية المتشددة ضد المهاجرين—متحكمًا في سردٍ يفترض أنه قانوني، لكنه في الواقع فورة شعبوية تنتهك أهم مبادئ النزاهة القانونية. برونو روتايو، الذي تقلّد حقيبة وزارة الداخلية الفرنسية في يونيو 2025، عُرف بتصريحاته الفجة ضد المغاربيين، وقلة فهمه لقرارات الترحيل والإجراءات المعمول بها فعليًا (مثل OQTF). ولأن هذا الخطاب لا يقوم على أساس قانوني، بل يُستخدم كأداة دعائية لتشويه الجاليات المغاربية، فقد وجد صدىً مدويًا في إعلام المغرب الذي هرع لتبنيه كإيعاز مباشر، دون تدقيق أو مساءلة. بل بلغ الأمر حد التنسيق الإعلامي الأعمى مع رؤية اعتقاد مفادها أن “شمال إفريقيا” لا تزال مزرعة انتخابية فرنسية، وأن الزعامة تُمنح بالتذلل لا بالاستقلال الوطني.

ولأن الحملة تتطلّب “خبيرًا جزائريًا” يُوهم بالحياد، لجأت بعض المنابر المغربية مجددًا إلى محمد سيفاوي، الذي قد يبدو للوهلة الأولى صوتًا معارضًا مستقلًا، لكن تموضعه الوظيفي داخل المنظومة الإعلامية الفرنسية، وتحديدًا في الأدوار التي أُوكلت له في إطار حملات موجهة، يسقط عنه أي مظهر من مظاهر المهنية أو المصداقية. فهذا الرجل لا يمتلك رصيدًا نزيهًا في الدفاع عن القضايا الجزائرية، بل تحيط به سلسلة من الفضائح القانونية والمالية والإعلامية، تعكس حقيقته كأداة مأجورة تُوظف لخدمة أجندات خارجية، أكثر مما تعبر عن أي التزام أخلاقي أو وطني مستقل.

في عام 2023، تلقت الجمعية التي يقودها “الخبير المحايد” سيفاوي، USEPPM، مبلغًا من المال العام الفرنسي (355 ألف يورو) ضمن تمويلات “لصندوق ماريان” المعني بمحاربة التطرف. لكن بعد تحقيق مراجعة دقيقة، تبين عدم تقديم أي خدمة ملموسة، لا بمعايير الأرقام، ولا بالجودة المرصودة أو الشفافة. تبعها تحقيقٌ من النيابة العامة الفرنسية وكشفت شبهات اختلاس للمال العام، واستغلال نفوذ وتضارب مصالح لصالحه أو لصالح أقاربه في نفس الجمعية، ما أثار تقريرًا من مجلس الشيوخ وصف نشاطه بـ”المبهم وغير المهني”. هذا الرجل الذي يدعي الصدق عند الحديث عن الجزائر والتهديد “الإرهابي”، إنما يصنع إعلامًا مدفوعًا، يبرر قبض الرواتب الضخمة، ويجمّل صورته أمام محولات القرار في باريس.

ولا يخفى أيضًا أن سيفاوي كان موضع انتقاد هيئة البث الرسمية (CSA) في فرنسا مرتين، بسبب خطابٍ يثير الكراهية ضد الأقليات، وأيضًا دمغ روايات ملفّقة في التحقيقات الاستقصائية. بل إن تصريحاته حول غزة، حين وصف العدوان بأنه “طفيف” و”ليست له درجات دموي”، أثارت موجة من الغضب الشعبي وساء سمعته في أكثر من وسيلة إعلامية. وهذا الشخص الذي تحول إلى “خبير” معتمد في الإعلام المغربي، كان أول من خضع للتدقيق من داخل أوساطه الإعلامية الفرنسية نفسها، باعتباره مجرد تمويل إعلامي لا أكثر.

إن تقديم الصحافة المغربية لمحمد سيفاوي على أنه شاهد حيادي ليس إلا سقوطًا أخلاقيًا مدوّيًا، وإفلاسًا مهنيًا يكشف هشاشة المعايير التحريرية المتبعة. فهو امتداد مباشر للأسطوانة القديمة التي دأب عليها القصر، حيث تتقاطع المصالح الضيقة للمخزن مع أجندات باريس في زواج مصلحي لا يُنتج سوى مزيد من التشويه والافتراء. وهكذا يُمنح سيفاوي صفة “محلل مستقل”، في حين أنه ليس سوى أداة ضمن حملة مدفوعة الأجر، موجّهة بعناية لضرب الجزائر وتشويه صورتها.

وأمام هذا الانبطاح، لا يمكن إلا أن نسأل، أين استقلال قرار الرباط؟ ومن الذي يملك سيادته في تحديد من يمثل دولته؟ قنصليات مغربية امتنعت عن تسليم أوراق ترحيل لقاصرين وموّلت الولوج إلى أوروبا؟ وسمحت بدوريات غير رسمية لدفعهم نحو الحدود؟ هذه الوقائع التي فضّحها الإعلام الإسباني مجرد أطنان من الأدلة على أن من يهاجم الجزائر في مثل هذه اللحظة، يفعل ذلك بأوامرٍ سياسية أكثر منها وطنية.

الجزائر، على العكس من جيرانها الذين يراوحون بين الازدواجية والتبعية، لم تبحث يومًا عن “وصاية شريفة”، ولا قبلت أن تكون بندًا هامشيًا في خطابات عواصم القرار الكبرى. لقد دفعت ثمن استقلالها من دماء أبنائها، وهي تدرك جيدًا أن السيادة لا تُطلب، بل تُنتزع وتُحمى كل يوم، بمؤسسات شرعية وبقرارات تنطلق من عمق الإرادة الشعبية لا من صالونات السفراء أو غرف الضغط الأوروبي. ومهما اشتدت عليها الظروف أو تعاظمت الضغوط، فهي لم تساوم يومًا على كرامتها، ولم تُخضع قراراتها لحسابات ظرفية أو لعلاقات ملتبسة مع مراكز النفوذ الخارجية.

تمارس الجزائر سيادتها بهدوء لا يُخفي الحزم، وبمرونة لا تُفقدها صلابتها، في زمن أصبحت فيه الدول تُختبر في ثباتها أكثر من خطابها. تُصدر وثائقها وفق قوانينها، وتبني علاقاتها وفق مصلحتها العليا، لا بمنطق الابتزاز ولا وفق إيقاع الإملاءات. ترد على حملات التشويه والتشويش لا بالضجيج، بل بإعادة التأكيد على استقلال قرارها، واحترامها لنفسها، ورفضها التورط في سجالات تافهة تشنها أبواق مأجورة أو منابر تتلقى تمويلاتها من خلف الستار.

وإذا كان الزمن قد كشف هشاشة الكثير من الكيانات التي تُزيّن واجهتها بالأضواء، لكنه عرّى بنيتها من الداخل، فإن الجزائر — رغم كل التحديات — ظلّت واقفة. دولة لا تكتفي بالشعارات، بل تُعبّر عن مشروع وطني صلب، لا يتلوّن بحسب المصالح، ولا يتغيّر بتقلب الرياح. في وقت تلهث فيه أنظمة مجاورة خلف شرعية خارجية، الجزائر تحتمي بشرعية داخلية لا تُشترى، وقناعة راسخة أن الأمة لا تُبنى من الخارج، بل من صدق العلاقة بين السلطة وشعبها.

أما أولئك الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أبواقًا لمشاريع لا تعبّر عنهم، وأن يُشتروا بمناصب أو منصات، فلن يذكرهم التاريخ إلا كصدى مشوّه لعصرِ ما بعد السيادة. أما من تمسّك بصوته الوطني، ودفع ثمن استقلاليته، ورفض أن يضع توقيعه على حملات التشهير مقابل مكاسب رخيصة، فهؤلاء وحدهم، يُصنع بهم المستقبل، وتُكتب بهم سردية الأوطان الحرّة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…